تؤشّر الموجات الارتدادية التي أعقبت المحاولة الانقلابية في تركيا في 15 يوليو/ تموز الماضي إلى أن المجتمع التركي طوّر مقاومة قوية تجاه واحد من أهم الأدوار التقليدية للجيش: التدخل في السياسة المدنية، بحسب تقرير نشره موقع "صدى" اليوم الخميس (11 أغسطس/ آب 2016).
تُبرِز المجموعة الواسعة من النظريات والتفسيرات حول المحاولة الانقلابية حجم المفاجأة التي أصيب بها المراقبون نتيجة ظهور الجيش من جديد في السياسة الداخلية. يشكّل تورُّط القوات المسلحة التركية في الخصومة الشديدة بين الرئيس رجب طيب أردوغان والداعية المقيم في المنفى فتح الله غولن ذروة الصراع على السلطة الذي يضم الآن في عداد ضحاياه جميع المعارضين للنظام الحاكم. ربما تؤشّر المحاولة الانقلابية في ذاتها إلى احتضار الجيش الذي شهد على تضاؤل سلطته الرسمية وتراجع موقعه السياسي-الاجتماعي نتيجة عمليات التطهير (وما رافقها من إذلال) التي ألحقت الضرر بروح التضامن في الجيش التركي، وتسبّبت بإضعاف ولاء الضباط الصغار للقيادة العليا طوال حكم حزب العدالة والتنمية المستمر منذ نحو 15 عاماً. لكن على الرغم من الانقسامات الداخلية في صفوف الجيش وتراجع دوره السياسي، المحاولة الانقلابية هي أيضاً تذكير للنظام بأن الجيش المسيَّس يشكّل تهديداً يجب ضبطه بحذر.
تتمحور الأسطورة التأسيسية للدولة التركية حول درء الجيش للاحتلال الأجنبي وبنائه جمهورية حديثة من بقايا الأمبراطورية العثمانية المستضعَفة. أدّت حماية علمانية الدولة وسلامة أراضيها الظاهريتين، إلى تنحية الجيش إلى دور الوصاية، ما أسفر عن أربعة تدخّلات مباشرة في الحياة السياسية المدنية بين العامَين 1960 و1997، والتي تُبرَّر في كل مرة بأن الهدف منها هو إنقاذ الدولة. لم تكن لدى القوات المسلحة أية نيّة بالبقاء في السلطة، وكانت في كل مرة تعيد الدولة إلى المدنيين، ولو في صيغة معدَّلة، ما دفع بأحد المؤرّخين إلى وصفهم بـ"التدخليين المتردّدين". أحد الأسباب هو خوف القيادة العليا التركية من أنه من شأن الاحتفاظ بالسلطة أن يؤدّي إلى تسييس الجيش، ما يولّد انقسامات في صفوف القوات المسلحة التركية ويقوّض بالتالي تماسك المؤسسة العسكرية ونفوذها.
كما في المحاولة الانقلابية الأخيرة، نفَّذ الانقلاب الأول في العام 1960 ضباطٌ صغار تصرّفوا خارج إطار الهرمية القيادية. شكّل الانقلاب في تموز/يوليو الماضي صدمةً أيضاً للباحثين في شؤون الجيش التركي الذين كانوا يعتقدون أن زمن التدخل الجسدي المباشر من الجيش قد ولّى. فقد توقّع كثرٌ منهم أن تتّبع التدخّلات في المستقبل نموذجاً أقل مباشرةً مثل "المذكرة الإلكترونية" أو محاولة "الانقلاب الإلكتروني" في العام 2007، عندما أصدر الجيش التركي عبر موقعه الإلكتروني الرسمي تحذيراً بلسان رئيس هيئة الأركان آنذاك، ياسر بويوكانيت، ناشد فيه الشعب التعبئة والتحرّك ضد صعود وزير الخارجية عبدالله غول المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية إلى موقع الرئاسة. وقد باء "الانقلاب الإلكتروني" بالفشل عندما ردّ حزب العدالة والتنمية بالدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة وحقّق نصراً كاسحاً فيها، وهكذا أصبح غول رئيساً للبلاد في آب/أغسطس 2007. لا بد من أن ذلك وجّه رسالة واضحة إلى الجيش التركي مفادها أنه خسر النفوذ السياسي للتدخّل بنجاح في مواجهة حكومات منتخَبة من الشعب، وأن مثل هذه المحاولات لن تؤدّي سوى إلى الانتقاص من مصداقيته.
قبل صعود حزب العدالة والتنمية، كانت التدخّلات المتعددة التي نفّذها الجيش قد ولّدت شكلاً من أشكال التبعية المتبادلة: كان بإمكان السياسيين التفلّت من المسؤولية من دون أي عواقب لأن الناخبين كانوا يقبلون بدور "الوصي" الذي يقوم به الجيش عبر تنفيذ انقلاب عندما تسوء الأمور كثيراً، وكانت الانقلابات الدورية التي يقوم بها الجيش تعزّز موقعه كوصيّ على الدولة. كنّا أمام حلقة مفرغة تحول دون تطوّر ديمقراطية ناضجة. كما أن هذه المقاربة مجّدت الجيش كقوة سياسية ذات رؤية وطنية، لكنها وضعت التفاصيل الجوهرية اليومية في الحياة السياسية التركية في عهدة أجهزة أخرى. في الواقع، عندما فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة في العام 2002، بدفعٍ من التصويت الاحتجاجي ضد النخبة الحاكمة غير الفاعلة، وجد عدد كبير من العلمانيين العزاء في فكرة أن الجيش سيشكّل عامل توازن يفرض الانضباط مكان المعارضة الضعيفة والفاقدة للمصداقية.
بيد أن حكم حزب العدالة والتنمية طبع بداية تراجع نفوذ الجيش. فالنجاحات التي حققها الحزب في المراحل الأولى، لا سيما نمو الاقتصاد التركي وما رافقه من تعزيز لمكانة البلاد على الساحة الدولية، ولّدت مزيداً من الثقة بالأفرقاء السياسيين المدنيين فيما منحت صوتاً لطبقة صاعدة من الناخبين المحافظين الدينيين. في ذلك الوقت، تسبّب التزام الحكومة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحاجتها إلى استيفاء معايير كوبنهاغن – بما في ذلك فرض سيطرة سياسية مدنية على القوات المسلحة – بإضعاف السلطات الرسمية للجيش. سعى حزب العدالة والتنمية، من خلال قضيتَي "إرغينيكون" و"باليوز" (المطرقة)، اللتين فضحتا المؤامرات ضد الحكومة كما يُزعَم، إلى اجتثاث ما سمّاه "الدولة العميقة" داخل الجيش، التي رأى فيها قوة كَمالية مضادّة في وجه الحكومة المنتخَبة. وقد أدّى ذلك، بين العامَين 2007 و2011، إلى إدانة أكثر من 300 شخص – بينهم صحافيون وأكاديميون وضباط عسكريون متقاعدون وفي الخدمة من مراتب مختلفة – في تهمٍ جرى تلفيقها لهم بكل وقاحة. لم تدعم القيادة العسكرية الضباط المستهدَفين سياسياً، ما أدّى إلى تعاظم الاستياء داخل المؤسسة العسكرية وإضعاف تماسكها. في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن الجيش زعم بأنه يتمتع بالشرعية المؤسسية المستمدّة من دعم الشعب، لم تحصل تعبئة حاشدة في صفوف الشعب لمؤازرة هؤلاء الضباط.
بيد أن هذا التراجع في دور الجيش السياسي لم يؤدِّ في نهاية المطاف إلى فسحة أكبر من الديمقراطية. في غياب معارضة سياسية حقيقية، أُطلِقت يد الحزب الحاكم بعد خسارة الجيش "سلطة فرض الانضباط". وقد تجلّت المعارضة السياسية لحزب العدالة والتنمية وأردوغان في حركة غولن على وجه الخصوص، وهي عبارة عن شبكة دينية عابرة للحدود يقودها فتح الله غولن الذي كان دعمه أساسياً لصعود الرئيس أردوغان. لقد عمد هذا الأخير إلى شطب أتباع غولن من قوائم حزب العدالة والتنمية في الانتخابات العامة في العام 2011، واستمرّ الخلاف بين الفريقَين بلا هوادة، مع سعي أردوغان إلى الاحتفاظ باليد العليا عبر تطهير المتعاطفين مع غولن من المناصب الأساسية في البيروقراطية والقضاء والشرطة. كما يُزعَم، يُشار إلى أن أنصار غولن كانوا خلف تحقيقات الفساد التي استهدفت أردوغان ووزراء حكومته في كانون الأول/ديسمبر 2013 ولقيت تغطية إعلامية واسعة.
امتدّت العداوة بين الرجلَين حكماً إلى الجيش حيث، حسب التقارير، سعى أنصار غولن إلى فرض وجودهم منذ ثمانينيات القرن الماضي، وشجّعوا تلامذتهم على الالتحاق بمدارس تدريب الضباط. عندما كان هناك تحالف بين أنصار غولن وحزب العدالة والتنمية، ساهمت المحاكمات في قضيتَي "إرغينيكون" و"المطرقة" في تعزيز مكانة الغولينيين في الجيش عبر إقصاء الكماليين. لكن بحلول العام 2015، ادّعى حزب العدالة والتنمية على نطاق واسع أنّ هذه المحاكمات كانت من تدبير حركة غولن دون سواها، وجرى الإفراج عن جميع المشتبه بهم الذين سُجِنوا في قضية "المطرقة" بحجّة ارتكاب أخطاء إجرائية – في خطوةٍ قام بها أردوغان من أجل إعادة بناء الدعم داخل الجيش مع تشويه سمعة عدوّه الجديد.
يسعى أردوغان منذ العام 2014 إلى إعادة بناء تحالف مع الجيش ضد حركة غولن. علاوةً على ذلك، وعلى ضوء تدهور الأوضاع عند الحدود الجنوبية لتركيا، إلى جانب فشل عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، حصل الجيش مجدداً على دور أكثر محورية يتمثل في الحفاظ على "سلامة أراضي" الجمهورية. بيد أن حزب العدالة والتنمية يعي جيداً الانقسامات الداخلية في صفوف الجيش والتي قد تؤدّي إلى إضعاف هذا التحالف، لذلك يبذل قصارى جهده كي تكون الفصائل المناهضة لغولن الأكثر استفادةً من دور الجيش المعزَّز في المجال الأمني. بعد محاولة الانقلاب، أعلن أردوغان في 21 تموز/يوليو الماضي أن الجيش التركي سيخضع لـ"إعادة هيكلة". لقد جرى تسريح 1700 عسكري من الخدمة بطريقة مذلّة، بينهم 40 في المئة من الأميرالات والجنرالات في تركيا. ومن المزمع إغلاق جميع الأكاديميات العسكرية، كما أن القوات المسلحة التركية ستصبح خاضعة لقيادة وزير الدفاع، ما يتيح للحكومة ممارسة سيطرة أكبر عليها. الدروس التي يستمدّها حزب العدالة والتنمية من المحاولة الانقلابية واضحة: إذا كان يريد جيشاً مسيَّساً يساعد على تحقيق مصالح الحزب الخاصة، يجب إخضاعه لسيطرة شديدة ومتأنّية كي لا يحدث انقلاب جديد.