كثيرة هي الدراسات العربية التي تناولت تجارب التحديث في عالمنا العربي بعد الاستقلال عن المستعمِر الأجنبي، وخصوصاً تلك التي أقامت أنظمة جمهورية توسلت الشرعية القومية وقضية فلسطين بديلاً عن الشرعية الدستورية الحقيقية بمفومها الديمقراطي الحديث، إلا أن الدراسات العربية التي تناولت التجربة التركية «المتعلمنة» مازالت قليلة، على رغم ما لهذه الدراسات من أهمية قصوى في تعميق فهم إخفاقات تجارب التحديث العربية، لا بالنظر فقط لما كان يربطنا بتركيا من علاقات تاريخية خلال الحقبة العثمانية حيث وقع العالم العربي تحت هيمنتها زهاء خمسة قرون كانت كافية لترك بصماتها على البُنى الاجتماعية والمواريث الثقافية، بل وبالنظر أيضاً لما تتميز به تركيا على الخارطة السياسية من موقع فريد «جيبوليتيكي» بكل معنى الكلمة كمفصل وشريان حيوي بين الشرق والغرب الأوروبي. هذا الموقع المتفرد أو لنقل «عبقرية المكان» بحسب تعبير عالم الجغرافية السياسية المصري جمال حمدان هو الذي هيأ لتركيا، ماضياً وحاضراً، ومازال يهيؤها لأن تلعب دوراً محوريّاً مهماً في السياسة الدولية، وانكفاء هذا الدور في أية فترة تاريخية إنما يفسره العوامل الذاتية الداخلية.
لكن هذا الموقع الاستراتيجي الذي استفادت منه تركيا العثمانية مثلما استفادت من تضافر عوامل وظروف موضوعية وذاتية اخرى متشابكة لبسط سيطرتها على كامل مساحة العالم العربي تقريباً، بل ومن تمددها في مناطق من دول البلقان والشرق الأوروبي فشل النظام العلماني الذي شيّده كمال أتاتورك في الاستفادة منه داخليّاً ليس بمعنى بعث أمجاد التوسع الامبراطوري غرباً وجنوباً وإنما بإقامة نظام دستوري ديمقراطي علماني حقيقي دون القفز على البُنية الاجتماعية التركية المتشكلة موضوعيّاً بخصائصها المعروفة ويسمح بآفاق واعدة لتطورها الذاتي، وهذا ما ألمحنا إليه وقصدناه في خاتمة مقالنا الموسوم (ماذا تبقى من «الديمقراطية» والعلمانية في تركيا ؟ الوسط ، 2 أغسطس/ آب 2016).
لقد كان نمط الانتاج السائد في تركيا عشية تشييد أتاتورك النظام العلماني الجديد شبه اقطاعي ذي خصوصية شرقية، ولمَّا تتشكل بعد برجوازية صناعية متطورة. وبحسب الباحث الروسي نيقولاي ايفانوف فإن القوى الطبقية المسيطرة في السلطنة العثمانية عرفت كيف تراكم ثروات طائلة لكنها بدلاً من توظيفها في عملية الانتاج نزعت إلى البذخ والاسراف. (راجع إفادات في هذا الشأن: ايرينا سميليانسكايا، البنى الاقتصادية والاجتماعية في المشرق العربي، الفارابي ، بيروت 1989).
ولم يكن التحديث الذي جرى في السلطنة العثمانية خلال القرن الـ 19 أو ما يُعرف بـ «الغربنة» متساوقاً مع تلك البُنية الاجتماعية التقليدية، وخاصة في ظل لجوء الدولة إلى تشديد المركزية وتعزيز البيروقراطية.
وترتيباً على ما تقدم يمكننا القول إن مشروع التحديث العلماني الاتاتوركي «جرى في ظل علاقات إنتاج شبه إقطاعية لم تضمحل كليّاً، وكانت الرأسمالية الوليدة المتشكلة تفتقر إلى البنية الاجتماعية المتطورة الناجزة موضوعيّاً والحاضنة لتطورها، ولم توازِها نواة ديمقراطية دستورية تعددية حقيقية واعدة تسمح بهذا التطور على غرار الرأسماليات الغربية، وما كان العسكر «المتعلمنون» المفتونون بالغرب في وارد تحمل إقامة ديمقراطية كهذه تخرج عن سيطرتهم. وحتى تلك الإصلاحات الهشة والتي بدأها السلطان سليم الثالث إنما جاءت وليدة الحاجة الى خبراء أوروبيين لبناء جيش مُسلح تسليحاً حديثاً بعد الهزائم التي مُني بها امام روسيا، وممن تناولوا هذه الإشكالية، كلاًّ حسب حقل البحث الذي تخصص فيه، المستشرق ل . ن كوتلوف في كتابه الموسوم «تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق 1980»، و المستشرق ز. إ . ليفين في كتابه الموسوم «الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في لبنان وسورية ومصر، دار ابن خلدون، بيروت، 1978».
وهكذا فإن الرأسمالية الجنينية إذا جاز القول في ظل النظام الاتاتوركي الجديد لم تتطور بل غدت رأسمالية مشوهة تُعرف بـ «رأسمالية الدولة»؛ لأنها مرتبطة بالدولة وتدخلاتها الفجة التي تضمن مصالح السلطة الاتوقراطية، والتي هي نتاج الرأسمالية الوليدة في الجزء الغربي من البلاد الأقرب إلى اوروبا (مناطق اسطنبول وأضنة وإزمير)، أما في مناطق شرقي البلاد (الأناضول) فقد ظلت بنيته الاجتماعية المتشكلة في الغالب الأعم من الفلاحين الاكثر محافظةً وتمسكاً بالدين والتقاليد ولم يطرأ عليها تغيير، ومن هذه المنطقة تحديداً جاء معظم مثقفي وساسة الاحزاب الاسلامية والتي نظر إليهم الروميليان (أتراك الجزء الغربي) بأنهم فقراء متخلفون في حاجة إلى التحضر. ونجد أيضاً بعض الدراسات الصحافية الأخيرة التي صدرت بعد الانقلاب الاخير التي أعادت التذكير بهذه الإشكالية، كدراسة مدير الأبحاث في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية بباريس حميد بوزارسلان المنشورة بصحيفة «لكسبرس» الفرنسية فقد أكّد ان الكتلة التي تؤيد هيمنة حزب العدالة بزعامة الرئيس رجب طيّب اردوغان قوامها برجوازية شديدة التدين ومناطقية لكنها من استقطاب شرائح من الفقراء من خلال المشاريع الخيرية والتبرعات والصدقات ( الحياة، 3 أغسطس 2016)، كما تناول المفكر الاقتصادي السياسي المصري سمير أمين في إحدى دراساته هذه الإشكالية أيضاً، وإن على نحو مُقتضب، وأرجع ضمنيّاً النجاح النسبي الذي حققه التحديث الاتاتوركي مقارنة بالتحديث المصري الأقل نجاحاً إلى ان مصر الناصرية تعرضت على الدوام للعدوان الامبريالي، لكن أمين فاتته أهمية الإشارة إلى إن هذا العدوان إنما فرضه موضوعيّاً تموضع مصر الجيوسياسي في قلب خريطة الصراع العربي الاسرائيلي ورفعها مشروعاً قوميّاً، بغض النظر عن عثراته في النظرية والتطبيق، وهذا ما لم تكن تواجهه تركيا. (أنظر: سمير أمين ، مصطلحا « الدولة الصاعدة» و «التنمية الرثة»، الطريق، شتاء 2015).
وبالنظر إلى المستجدات الأخيرة المتسارعة التي تشهدها تركيا في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل ما لم تعِ وتدرك القوى الحية والديمقراطية علميّاً هذه الملابسات والظروف الموضوعية التي جرت خلالها تجارب التحديث السابقة سواء خلال الحقبة العثمانية أم خلال النظام الاتاتوركي وما انتهت إليه من إخفاقات وتتحالف لتشكيل جبهة خلاص وطني تضم كل القوى والحركات السياسية والاجتماعية وممثلي موزاييك التنوع العرقي والديني والقومي الذي يتكون منه الشعب المتضرر فإن تركيا الاردوغانية مرشحة للدخول في نفق طويل قد يعيدها عقوداً طويلة إلى الخلف ذلك أن النخبة «الاسلاموية « الحاكمة التي تدير دفة الحكم غير مؤهلة لمواصلة عملية التحديث ولا إدارة الازمات الناجمة عن اخفاقات تجارب التحديث السابقة منذ إقامة النظام العلماني التركي قبل نحو قرن.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5085 - الإثنين 08 أغسطس 2016م الموافق 05 ذي القعدة 1437هـ