العدد 5085 - الإثنين 08 أغسطس 2016م الموافق 05 ذي القعدة 1437هـ

في ليلة ضبابية

تصوير : محمد الجدحفصي
تصوير : محمد الجدحفصي

في أرجاء منطقة الصخير، وعند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل بينما توزعت وتناثرت مجموعات من الخيام التي سمحت بها البلدية كحبَّات الفقع البارزة من رحم الأرض فاتحة أفواهها للسماء، ويتسلل من بينها الضباب الساري على الأرض يحك الصخور فلا يلمسها ويتهادى كالمراقب المأمور، فلا يرى فيه إلا نصف الماشي إلى الأعلى وبصعوبة، وتطل عليها النجوم ويتراءى للناظر النيران المشتعلة عند بعض الخيام كشرارة صغيرة أو مجموعة منها.

هناك في منطقة جنوب خيام الحرس الوطني المنصوبة كانت خيمة متربعة يسمع من داخلها صوت شاب يهاتف آخر، وينتظر قدوم أصدقائه حيث يقضي الوقت لوحده فيها. في وسط الضباب كانت أقدام تشق طريقها إلى باب الخيمة وهي لفتاة مزقت ثيابها وجرح وجهها وفقدت حذاءها هائمة على هذه الأرض التي التحفت بضباب السماء ونصبت عليها خيام الأرض المظلمة، ولما وصلت إلى باب الخيمة كان الشاب سلمان قد أنهى مكالمته مع صديقه لؤي الذي قال له سنصل إلى الخيمة ربما بعد نصف ساعة أو ساعة، رفع سلمان رأسه ورأى الفتاة واقفة عند الباب تنظر إليه وهي كما لو أن أحداً صبَّ عليها ماء بارداً فجعل حركتها بطيئة وعيناها فائضة بالدمع بوجه محزون مهموم، نهض على عجل واتجه إليها عند باب الخيمة.

على الجانب الآخر، وفي مدينة عيسى، كان مجموعة شباب من أصحاب الخيمة قد نزلوا من سيارتهم ودخلوا أحد الأسواق يتبضَّعون لرحلتهم، وكان حوارهم الرئيسي يدور حول وجود الجن والأشباح والأرواح في منطقة الصخير؛ وخصوصاً أن هناك حكايات عن عجائز ونساء يخرجن ليلاً على هيئة بشر، ويخيفون روَّاد المنطقة حيث قال الشاب لؤي للبقية، سمعت من أحد الأصدقاء عن مثل هذه الحكايات. أما عادل الذي غالباً ما يهزأ منه أصحابه لشدَّة خوفه بسبب قصص الجن والأرواح التي يسمعها من الآخرين؛ فقد أطلق عليه الجميع لقب الجبان، وهو في هذه اللحظة يلطم لؤي على فمه بينما يحاورهم عن الجن وصاح فيه طالباً منه الصمت والكف عن سرد مثل هذه الأقاويل التي تخيفه وإلا سيلغي رحلته معهم ويرجع إلى بيته.

في منطقة الصخير كان سلمان بعد أن سمع قصة الفتاة الغريبة التي أدَّعت بأن شابين حاولا اغتصابها وقاومتهما بشراسة وتركاها وهربا قد فرش لها بطانية ووضع لها وسادة بعد أن قدَّم لها بعضاً من الأكل وشربت عصيراً واستلقت منهكة، نظرت إليه للحظات وسألته لماذا لا تملك سيارة ولماذا أنت موجود هنا لوحدك؟ لم يكن جوابه صعباً، قال لها، إنه ينتظر أصدقاءه وهم في الطريق إليه، وطلب منها أن ترتاح قليلاً ريثما يصلون، وبعدها سيسهِّل أمر توصيلها إلى بيتها.

لم يبقَ على حضور شلَّة الشباب الذين ينتظرهم سوى خمس دقائق فقط، ومازال لؤي يطلق الجُمَل والكلمات التي تهزُّ قلب عادل فيضحك البقية ويذعر عادل والسيارة منطلقة نحو الخيمة. داخل الخيمة لاحظ سلمان أن الفتاة مازالت تشعر بالبرد فخلع الجاكتة الحمراء التي كان يرتديها ووضعها على كتفها إضافة على اللحاف ثم نهض وخرج ليقضي حاجة بعيداً عن الخيمة.

بعد دقيقتين كان صوت عجلات سيارة الشباب يصدر بالقرب من باب الخيمة ونزل لؤي يداعب عادل بحديثه المعتاد عن الأشباح والجن فتوقف أمام الباب قبل أن يدخل التفت إلى عادل موجِّها كلامه إليه ويحثه على الدخول أولاً. رفض عادل ورفض بقية الشباب الدخول، تراقص لؤي وفرح لأنه استطاع أن يؤثر على الجميع بخيالاته، وهو يحمل مصباحاً يدوياً كان يوجِّهه إلى وجوه أصدقائه وهو يلقي التعليق بعد الآخر، أسرع الخطى إلى الداخل ليشعل النور وما هي إلا عشر ثوان حتى خرج لؤي وقد غص بريقه وبلع كلماته ولم يعد يستطيع أو يقوى على مخاطبتهم سوى أنه أشار إلى السيارة وهو يصرخ فيهم.

- شبح فتاة داخل الخيمة... أقسم بالله.. يجب أن نرحل من هنا حالاً.

ثم صعد السيارة قبلهم، لم يصدِّق أحد الشباب وهو بشار ما قاله لؤي فقد ظن الجميع أنه يهذي كعادته وسحب المصباح من يد عادل الذي جمد جسده وشُلَّت حركته وجحظت عيناه وكادتا أن تخرجا من رأسه بسبب شدَّة خوفه وفزعه مما قاله لؤي. قال بشار: «هذه نهاية حبكة القصة التي كان لؤي يختلقها لنا أثناء قدومنا إلى هنا وهو الآن يريد أن يرى الفزع يسيطر على قلوبنا ووجوهنا فلماذا الخوف من هذه النهاية».

دخل بشار الخيمة والبقية تترقّب واللحظات تمرُّ، فيما استلقى لؤي على كرسي السيارة الخلفي وهو يكاد يتقيأ من الرعب الذي أصابه، قال عادل للبقية: «أكاد أتبوَّل في بنطالي بسبب خوفي الآن».

وما هي إلا لحظات حتى خرج بشار راكضاً يسحب عادل من كوعه ويدفعه بقوة إلى السيارة وهو يهمس لهم وكأن الكلمات التي تصدر من فمه قد اعترضها عارض وسدَّت حنجرته وبسرعة البرق صعد الجميع إلى السيارة وانطلقوا بها إلى خيمة أصدقاء آخرين لهم. وباتوا تلك الليلة عند أصحابهم الذين نصحوهم بالذهاب إلى خيمتهم صبيحة اليوم التالي. ولم تمر تلك الليلة عادية على الشلة من الشباب.

عندما أشرقت الشمس في الصباح التالي كان عدد كبير من الشباب قد شارك في الانتقال من هذه الخيمة إلى خيمة الشباب المسكونة، لم ينم لؤي ولم يتحدث مع أحد في تلك الليلة.

توقَّفت ثلاث سيارات أمام الخيمة المقصودة ونزل منها تسعة من الشباب الذين تحدوا الوضع الذي أصاب أصدقاءهم. دخلوا الخيمة وكانت المفاجأة لهم أن الفتاة موجودة، صحت على صوتهم وهم يوقظونها. رأوها جميعا وتراجعوا خطوات متكاتفين، رفعت رأسها من تحت اللحاف وهي تتثاءب وتنظر إليهم مستغربة مما يجري أمامها، تقدم لؤي خطوتين وأطل في وجهها سألها:

- هل أنت حقيقية أم شبح أم روح؟

- أنا حقيقية. فلماذا كل هذا الهرج والمرج، جئت إلى هنا في حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل بعد قصة طويلة حدثت لي وساعدني سلمان.

ولما ذكرت لهم اسم سلمان، توزَّعت النظرات من الجميع إلى الجميع، رفع لؤي يده واقترح عليهم أن يسكتوا جميعاً، أعاد سؤالاً آخر عليها:

- هل قلت سلمان؟

- نعم. سلمان هو الذي آواني هنا وساعدني ثم رفعت الجاكيت الأحمر مواصلة وقد أعطاني هذا الجاكيت واللحاف لأن البرد أصاب جسدي بقسوته. وقد دخلت عليه وهو يخاطب صديقاً له أسمه لؤي!

- جحظت عينا لؤي وكاد أن يسقط على الأرض مغشياً عليه لأن سلمان هو في واقع الأمر كان صديقهم الذي توفى العام الماضي في خيمة لهم نصبت في موقع خلف هذه الخيمة واحترق داخلها وكانت آخر مكالمة له عبر الهاتف في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل مع لؤي!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً