قد يتساءل المتابع لإجراءات الاقتراض التي تمارسها الدول ذات العجوزات والديون العامة الضخمة، ومنها حكومة البحرين، بأنها لم تلجأ للاقتراض من صندوق النقد الدولي وإنما من مصارف عالمية وإقليمية ومحلية، وهذا ظاهرياً صحيح بالنسبة لبعض الدول، ولكن عملياً لابد أن نبحث عن سر قوة هذا الصندوق وتأثيره الكبير على المصارف الدولية.
ففي كتاب الاقتصادي الألماني آرنست فولف، أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا بجنوب افريقيا والمعنون «صندوق النقد الدولي، قوة عظمى في الساحة العالمية»، يكشف الكثير عن خبايا هذه الأسرار والعلاقة الوثيقة بين الصندوق والمصارف العالمية. فمن الناحية الرسمية تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل، غير أن تدخلاته تبدو ـ في الواقع- أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، حيث ينتهك سيادة هذه الدول، أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين، وتخلف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي، وفي كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً، بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أي عمليات «التمويل» للدول التي تتعرض لمشاكل العجوزات أو الديون المتراكمة عليها، وذلك على هيئة قروض، مقابل تنفيذ الدولة إجراءات تضمن قدرة الدول على تسديد هذه القروض. ولكن فولف يرى أن هذه المؤسسة التي تعتبر الملاذ الأخير للتزود بالسيولة «ليس أمام حكومات البلدان المأزومة غير القبول بشروط الصندوق، وإن ترتب على ذلك السقوط أكثر فأكثر في «فخ المديونية» حيث تتحمل الدولة ليس فقط دفع القسط بل فوائد مركبة، وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على الموازنة الحكومية والاقتصاد الوطني»، وثبت عملياً بأن جميع حكومات هذه البلدان المتأزمة تُحمل الجماهير العاملة والفقراء تبعات برامج التقشف المالي. وبالمقابل، فإن فولف يرى أن سياسة الصندوق قد جعلت في مستطاع «حفنة» من الأغنياء ـ ومن ذوي النفوذ السياسي ـ والذي يعجز المرء عن وصف تراكم ثرواتهم بلا انقطاع حتى في أزمنة الأزمات، فإن هذه الإجراءات المدعومة من قبل الصندوق كانت عاملاً جوهرياً في بلوغ اللاعدالة الاجتماعية.
ما هي آليات الاستدانة من الصندوق؟
تأتي هذه الآليات من خلال قواعد الحصول على العضوية في صندوق النقد الدولي، فعلى البلدان الراغبة في العضوية أن تكشف عن حساباتها، ومن ثم تودع لدى الصندوق انطلاقاً من قدراتها الاقتصادية كمية من الذهب، ومبلغاً من المال بعملتها، ومقابل ذلك صار من حق هذه الدول التزود بالسيولة الدولية بمقدار ودائعها في حالة تعرضها إلى مشاكل في ميزان المدفوعات، وعليها بالتالي دفع فوائد معينة على هذا الاقتراض، ولكن عليها أن تلتزم أيضاً بأن تسدد ديون الصندوق قبل أن تباشر بتسديد ديون الأطراف الأخرى، باعتباره «دائن ممتاز». وقد بدأ الصندوق برأسمال بلغ 8.8 مليارات دولار أميركي جمعها من حصص الدول الأعضاء التي تكونت إسهاماتها من 25 في المئة ذهب و75 في المئة عملة البلد العضو. وقد بلغت حصة الولايات المتحدة 2.9 مليار دولار، وبهذا النحو لم تضمن أميركا لنفسها قوة تصويتية تبلغ الضعف فحسب، بل استطاعت أن تصبح الدولة الوحيدة التي تتمتع بنظام التصويت المرجح ويجوز لها استخدام حق النقض «الفيتو» في كل عمليات التصويت القادمة.
الأمر الخطير بأن الصندوق ومع تطور الصراع البريطاني الأميركي بعد العدوان الثلاثي على مصر، فإنه استحدث اتفاقيات جديدة ومنها مبدأ المشروطية (conditionality principle) ومضمونه هو أن الموافقة على التمويل المطلوب يستدعي تنفيذ شروط معينة تتعدى الشروط المتفق عليها بشأن فترات السداد ومعدلات الفائدة، ولتمرير هذا المبدأ وانصياع الدول له، فقد قام عام 1958م، بإلزام حكومات الدول المستلفة بإصدار «خطاب نوايا» letter of intent تعرب فيه عن التزامها بتحقيق «أهداف كمية محدودة للوصول إلى الاستقرار المالي والنقدي، والتحكم في المشاكل المتعلقة بميزان المدفوعات»، وبهذه الطريقة أعطى الصندوق انطباعاً بأن البلد المتعثر هو الطرف الذي اقترح على الصندوق هذه الإجراءات الواردة في خطاب النوايا! ولذلك أصر الصندوق ـ ولا يزال يصر ـ على أن جميع الاتفاقيات التي يبرمها مع الدول المستلفة ليست اتفاقيات دولية! وبالتالي فليست بحاجة إلى مصادقة البرلمان عليها، كما أصر على أن هذه الاتفاقيات يجب أن تكون بعيدة عن أنظار الرأي العام! وأن يجري التعامل معها بوصفها «سراً من الأسرار الواجب كتمانها!».
والآن ما علاقة كل ذلك بالاقتراض من المصارف الدولية؟
إن تعزيز مبدأ المشروطية ووجود خطاب نوايا موافق عليه من قبل الصندوق، قد أسهم في توسيع نطاق وتأثير الصندوق، حيث أن البنك الدولي وأكثرية المصارف التجارية الدولية قد دأبت على تسليف تلك البلدان المتعثرة فقط، التي لديها «شهادة حسن سلوك» من صندوق النقد الدولي؛ أي شهادة تثبت أنها نفذت جميع المعايير المطلوبة منها! وهنا تكمن الخطورة الثانية المتمثلة بأن الدولة المتأزمة أصبحت غير قادرة على أن تقترض من المصارف الدولية، وحتى من الحكومات الأخرى بدون موافقة صندوق النقد الدولي والحصول على «شهادة حسن السير والسلوك» منه! أي شهادة تثبت إنها نفذت جميع المعايير المطلوبة منها.
إن صندوق النقد الدولي لم يكتف بهذه الوسائل الضاغطة على الدول المتأزمة والمؤثرة على باقي المصارف التجارية الدولية، بل خلق المزيد من الوسائل منها بروز مؤسسات التصنيف الائتماني السيادي وإعلانها عن عدم مقدرة الدولة في سداد الديون وإعطائها نسب منخفضة «الأمر الذي يؤثر على شراء المصارف السندات الحكومية أو الاقتراض منها»، وبالطبع لدى الصندوق وسائل ضغط أخرى كقرارات «نادي باريس» و»نادي لندن».
نادي باريس
في عام 1956م شهدت باريس اجتماعاً لمناقشة الصعوبات التي تواجهها الحكومة الأرجنتينية في سداد ما في ذمتها من ديون، وبعده شهدت باريس سلسلة اجتماعات ضمت ممثلي الصندوق والأطراف الدائنة والدولة المدينة، ومع مرور الزمن تولدت عن هذه الاجتماعات فكرة عقد اجتماعات شهرية منتظمة يلتقي فيها الصندوق بالدائنين الحكوميين، وتحولت فيما بعد هذه الاجتماعات إلى مؤسسة سميت بنادي باريس الذي أصبحت مفاوضاته بمثابة قرارات «غير رسمية» بعيدة عن رقابة البرلمانات والرأي العام، ويتكون هذا النادي من 19 دولة أوروبية واليابان وروسيا وأميركا، وفي 24 يونيو 2014م، انضمت إسرائيل لهذه الدول لتصبح المجموعة مكونة من 20 دولة.
نادي لندن
أمام نجاح الصندوق والدول الدائنة في إيجاد وسيلة ضغط جديدة كنادي باريس، اكتشفت المصارف التجارية الأهمية العالمية لهذا النادي، لذا فإنها اقتدت به، فأنشأت «نادي لندن»، وبدأت منذ ذلك الزمن وحتى اليوم الحاضر تعقد اجتماعات تتزامن مع اجتماع نادي باريس.
والمحصلة الأهم هي أن المصارف التجارية الدولية ترى أن الدول الجديرة بالحصول على التمويل، هي تلك الدول فقط التي خضعت لشروط صندوق النقد الدولي والتزمت بتنفيذ برامج التكيف الهيكلي، وهكذا يرى فولف بأنه إذا كان «هذا البلد أو ذاك، لا يريد لنفسه التعرض إلى عزلة شاملة، وإذا عزم على مواصلة المشاركة بالمستجدات الاقتصادية والمالية والدولية، عندئذ لن يكون لديه خيار آخر غير الانتظام في صفوف الصندوق والموافقة على شروطه، وبهذا النحو غدا، ثلاثة أرباع بلدان أميركا اللاتينية وثلثا البلدان الافريقية، أعضاء في صندوق النقد الدولي، رغم ان ثقلهم التصويتي لا يتجاوز بين 5 إلى 7 في المئة فقط.
إننا كدولة نفطية ورغم التذبذبات في أسعاره تمتلك القدرة على عدم الوقوع في «فخ المديونية» والرضوخ لشروط وتدابير صندوق النقد الدولي والمصارف الدولية عبر تطهير الاقتصاد من الفساد المالي والإداري والمحسوبيات والتعاضديات الريعية التي ترهق سلاسة التنافسية والانسيابية الاقتصادية المطلوبة، وتخفيض جاد للمصروفات الناتجة عن البيروقراطية وهدر الثروات على تضخم الجهاز الحكومي وتشعبه وغيرها من الإجراءات البديلة عن سياسات اقتصادية المتضرر الأكبر منها هم الفقراء وذوي الدخل المحدود والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 5084 - الأحد 07 أغسطس 2016م الموافق 04 ذي القعدة 1437هـ