يشهد عالمنا (المتمدن) ظاهرة التوحش بجميع أشكالها، وعلى امتداد غالبية بلدان العالم، حيث إن ذلك يتماشى مع العولمة، التي بدأت اقتصادية وتحولت أيضاً إلى عولمة الإرهاب والتوحش، يعيد لنا ذكريات الحرب العالمية الثانية دون أن يكون هناك اعلان بحرب عالمية. كلنا تابع عملية ذبح الطفل الفلسطيني (13 عاما)، من قبل إرهابي «تنظيم نورالدين زنكي» في حندرات بريف حلب، وهي مجرد مثال على عملية التوحش المصاحبة لحروب اشتعلت في المنطقة العربية وإفريقيا، لكن عملياتها امتدت إلى أوروبا وأميركا، وقد تمتد لباقي القارات.
للحرب أصولها وقواعدها، وقد نظمت هذه القواعد اتفاقيات جنيف الأربع في عام 1945. وصدقت عليها معظم دول العالم، لكن ما يجري اليوم تجاوز وخرق لهذه القواعد إلى الوحشية البغيضة، مستهدفه السكان الأبرياء، والتطهير العرقي والديني والتدمير الشامل للأحياء والمرافق، والعودة لتقاليد النهب والسلب واسترقاق النساء والأطفال، وإعدام الأسرى، والذبح على الهوية. لقد أضحت ويا للأسف هذه مشاهد يومية نتابعها على شاشات التلفزيون، وتفردها في الصحف، ونتابعها في وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث أضحت طقسا يوميا. ما تقوم به المنظمات التكفيرية مثل «داعش» وأخواتها في سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن وعمليات إرهابية في أوروبا من تفجيرات، وهجمات، وما تقوم به «بوكو حرام» في غربي إفريقيا، بل ما يقوم به المتطرفون الهندوس في الهند وبورما، وعصابات المخدرات في أميركا اللاتينية، هو غيض من فيض؛ بل إن هوس القتل امتد إلى الأفراد في الدول الغربية المتطورة مثل اسكندنافيا وألمانيا وفرنسا وأميركا، وغيرها، مما يستدعي التفكير العميق فيما يجري في عالمنا (المتمدن)، ويجيء الرد أحيانا بمثل ذلك من قبل الدول والأنظمة المتصدية للحركات التكفيرية، كما نراه من قصف الأحياء السكنية ببراميل النفط، والقنابل والصواريخ بما في ذلك المستشفيات في سورية، وبدرجة أقل في بلدان أخرى.
ويضاف إلى ذلك تنكيل إسرائيل بالشعب الفلسطيني الذي أضحى روتينا مقبولا عالميا. ويكون رد الكثير من الدول للأعمال الإرهابية حتى الفردية، أو حتى المعارضة السلمية بالعقاب الجماعي لكل من يعارض وأحيانا لمكونات الشعب غير المرغوب فيها لأسباب سياسية أو مذهبية أو عرقية، حيث تستباح الحقوق المدنية، والسياسية والحق في الحياة، وممارسة التعذيب الوحشي والنفي وإسقاط الجنسية والمحاكمات الجائرة والاعتقالات الجماعية، وتقطيع أوصال المجتمع، والبلاد باطلاق العنان للقوات العسكرية والأمنية، وتحول باقي أجهزة الدولة إلى أذرع للقمع والانتقام.
وهو ما يحدث في أغلب الدول العربية والكثير من دول العالم المتخلف، وما جرى حديثا على إثر المحاولة الانقلابية في تركيا، من حملات انتقام ميدانية وعمليات تطهير شاملة يظهر مدى ذلك المنحدر، يعود ذلك بالأساس إلى العولمة المتوحشة التي تسوغ الربح والمنافع للرأسماليين، على حساب البشر، وبأي وسيلة بما في ذلك تسويغ ما ذكرنا من أشكال التوحش، وتفكيك الدول والمجتمعات، ويساعدها في ذلك، بل وتتواطؤ معها أنظمة تابعة فاشلة لا تقل عنها في معاداة شعوبها، ومستعدة للتساوق مع الرأسمالية المتوحشة للحفاظ على سلطتها.
وفي الجانب الآخر من هذه العولمة المتوحشة، هناك التفاهة السائدة، والتي تسهلها ثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي والميديا الالكترونية والتي تسهل نشر كل صرعه تافهة، في ظل فراغ فكري، وخيانة النخب السياسية والثقافية لدورها. حديثا، أعلنت نجمة تلفزيون الواقع كيم كاردشيان أنها رفعت أجرها عن كل ساعة من الترفيه تقدمه، إلى مليون دولار، وقد دفع لها فعلا ثلاثة أرباع مليون دولار، لقاء حفلة تصوير سلفي في نيويورك لساعة فقط، أما النجمة التي تحظى بأكبر عدد من المتابعين لتغريداتها فهي مغنية البوب الأميركية كاتي بيردي بـ 93.7 مليون متابع، وتليها مغنية البوب الأخرى تايلور سويفت بـ 89 مليون متابع، في حين أن متابعي الرئيس أوباما لا شيء بوزن 6 ملايين.
وفي خضم الوضع العالمي المتأزم والمتدهور، انتشرت بشكل وبائي لعبة «بوكيمون غو»، حيث عمت الهستيريا العالم بشكل لا يصدق، وترتب عليها نتائج وحوادث مأساوية، أليس من مؤشرات التفاهة أن يكذب زعيم حزب الاستقلال البريطاني، فاراج، وزعيم في حزب المحافظين بوريس جونسون، وهما في دولة ديمقراطية لها تقاليدها في الصدقية السياسية للسياسيين والأحزاب على الجمهور البريطاني، والذي أضحى يستقي الكثير منه ثقافتهم من البارات والميديا الرخيصة وصحف التابليود، فيذهبون كالعميان أو السكارى وقد أخذتهم النشوة ليصوتوا بخروج المملكة المتحدة في أوروبا، ليتبين لاحقا الكارثة التي تسببوا بها!
وإذا كان فاراج قد استقال ندما من زعامة حزبه، فإن جونسون حظي بمنصب وزير خارجية المملكة المتحدة. وقس على ذلك فوز البليونير المخادع ترامب، كمرشح من الحزب الجمهوري، وإمكانية كبيرة لفوزه برئاسة أرقى دولة في العالم، الولايات المتحدة مع كل ما يمثله من ضحالة فكرية وديماغوجية وعنصرية.
التوحش والتفاهة وجهان لعالم دمرت أخلاقياته وقيمه العولمة المتوحشة، والرأسمالية المنفلتة من عقالها، وأنظمة استبدادية متسلطة، وجمهور أدمن التصفيق، ونخب تخلت عن قيمها وواجباتها، والقادم أعظم.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5082 - الجمعة 05 أغسطس 2016م الموافق 02 ذي القعدة 1437هـ
مقال رائع يستحق القراءه.
ابنائنا يا كاتب العزيز مثال للعولمه التتافه مع الالعاب الالكترونيه والهواتف النقاله في سبعينات كانت هوايات مثل فروسيه وجمع الطوابع ورحلات كشفيه اين كل هذا
أيه والله! صدقت يا أستاذي العزيز عبد النبي العكري! كثير من الأمور التي كتبتها في مقالك الرائع هنا تخطر أحيانا على بالي! كأنك تنطق بما يختزنه القلب صراحه! صرنا في زمن تمكن فيه الجهال! وهكذا! إذا تمكن الجاهل دمر أمما!