أن تكون شاعراً يعني أن تكون قادراً على كتابة الكون من حولك. الكون الذي تعيشه ويعيشك. تكتب تفاصيله كما هو الحال مع عمومياته. تخلّد كل لحظة عابرة كما تؤرّخ للأحداث التي تستمر أعواماً. «تصف غابة تحترق، بعد أن كنت طفلاً لا يعرف من النار غير عود ثقاب». هكذا ببساطة تكتب العادي لتحيله استثنائياً.
في «كلمات رديئة» يذهب الشاعر العراقي ميثم راضي إلى أبعد مما يراه، وهو دور الشاعر المتمكن من أدواته، يكتب تفاصيل صغيرة لا يمكن لغيره أن يفكر بها. هو المولود في عمق الخراب. الذي يبحث عن يومه وسط أيام من الموت والدمار والدماء. يكتب وطنه ويحاول أن يكون حيادياً حين الحديث عنه. لكنه يسقط في وهْدة الواقع المرّ؛ ليخلّف قصائد لا تبتعد عن كل هذه المشاهد التي تنقلها نشرات الأخبار اليومية، إلا لترصد ما غفلت عنه كاميرا المراسلين.
في كلمات رديئة، يبدو راضي مخلصاً لجرح وطنه حتى في علاقته بمحبوبته. الحبيبة التي هي امتداد للوطن. والتي تهدهد جراحه كما تفعل بجراح محبوبها، ففي قصيدته: مهمتك الدائمة، يوكل لحبيبته مهام غير تلك التي يكتبها شعراء الغزل وشعراء الحب وشعراء السعادة، كتب لها:
أخبريني دائماً أن كل شيء على ما يرام...
حتى لو عدت لكِ بذراع واحدة ونسيت الأخرى تكتب عن رجل يدفن طفلته...
أخبريني أنها لم تمت وأن الرجل كان يحفر برْكة في القصيدة...
(...)
أخبريني أن كل شيء على ما يرام.. حتى لو صرت أعمى وتعثرت بجثة الطفلة في الصالة
صيحي من المطبخ: لقد نسيت أن أخبرك أننا غيّرنا مكان الطاولة
(...)
وعندما أستغرب ملمس دمها على وجهي، أخبريني أنني أنا الذي نزفت كثيراً
وأنني أحتاج أن تخيطي لي الجرح
هكذا سأتحسس الندبة وأنا حاقد على الطاولة وليس على البلاد.
حين تطوف بأرجاء الديوان الشعري، تقرأ نصوصاً متعددة لجرح واحد باتساع الفضاء، من الممكن أن يكتب من كل الزوايا التي لا حصر لها. فأنت تقرأ الأب الذي يصنع لأولاده زوجات يشكلهن من طين؛ كي يستطيع إعادة رؤوس أحفاده كلما قطعت. تقرأ عن الجد الذي يجفف السنوات السعيدة ليستخدمها في غير مواسمها وكأن على الأبناء والأحفاد أن يعيشوا سنوات السعادة المجففة حين لا يجدون ما يسعدهم. تقرأ عن المعلِّمة التي لا تستطيع تعليم الأطفال العد لأكثر من خمسة لأن آباء تلاميذها لا يمتلكون إلا ذراعاً واحدة بعد أن أخذت الحروب أذرعهم الثانية. تقرأ عن الشوارع التي يخيطها العشّاق حين يعبرون لبعضهم بعضاً، وعن الشاعر الذي يريد أن يحفروا له قبره بجرافة بعد أن صار وحده مقبرة جماعية.
من يقرأ هذه الكلمات التي أراد لها شاعرها أن تكون تحت وصف «رديئة»، يعرف معنى أن تكون عراقياً في هذا الزمن المدجج بأجساد الصغار الممزقة، وبالأرواح الملوثة بالسخام والتي تدل على أن أصحابها من العراق. فسماها رديئة لأنها تصف واقعاً رديئاً.
في الديوان الذي تتوزّع قصائده بين ومضات من سطرين أو ثلاثة، وقصائد تمتد فتملأ صفحة أو اثنتين، أنت لا تقرأ بقدر ما تشاهد مقاطع مصوّرة وسريعة تسمع من خلالها أصوات الأبطال، وتشم رائحة الدم والطين والبارود وبقايا الدخان العالق في الوجوه. تقرأ نصوصاً تجيد السرد فتتعثر به حتى تكاد لا تفرق بين بعضها وبعض القصص القصيرة جداً. وفي الوقت ذاته تقرأ شعراً موغلاً في الوجدان.
لقد كتب راضي غيره فكتب ذاته، ولا عجب إذ هو القائل ذات حوار: «يجب على الكاتب الذي يعيش حياة روتينية وعادية جداً، مثلي مثلاً، أن يبتعد عن النصوص الذاتية، وأن يكتب التجربة الكبيرة بكل تفاصيلها التي يعيشها الآخرون، وهو منهم، يومياً، هكذا سيشعر المتلقي بالمحبة للنصوص التي تقوله».
بقي أن نقول أن الكتاب صادر عن دار المتوسط وهو يقع في 71 صفحة من القطع المتوسط، ويحوي 60 نصاً بين دفتيه، وهو رقم تعمَّد الشاعر اختياره ليشير به إلى متوسط عمر الإنسان كما قال.