لا تبتغي الكتابة التي تذهب عميقاً، وبشكل جادٍّ إلى حقيقة المشكلات، مُتلمِّسة حُلولاً لها، أو تقديم رؤية، تُسهم في الاقتراح والمبادرة في حُلول، سوى أن يكون الفضاء الذي تتحرَّك فيه الثقافة طبيعياً وليس مُصطنعاً. مُصطنعاً بمعنى فرْض الحدِّ الأقصى من الشروط التي تنفي عنه صفة الفضاء أولاً، وتنسف وجود ثقافة حقيقية تنويرية تهدف إلى الاضطلاع بدورها في التنمية على اختلاف ما يتفرَّع عن تلك التنمية، ثانياً.
المشكلات، ولنسمِّها الأزمات، تلك التي تمسُّ الثقافة وقضاياها، والمرتبطين بها، والتي يتم تأجيل وضع الحلول لها، تهاوناً في شرٍّ مستطير. الشر الذي لن يبرح المكان والممارسة، طالما ظلَّت شهية أفراد وكيانات مفتوحة على الخراب، وعلى الاصطفاف.
هل كان أكثرنا يهرب؛ أو ربما ينأى بنفسه عن الكلام على الشأن الثقافي، بكل تعقيداته، وبكل الالتباس الذي لا يخلو منه؟ متى نهرب، ومتى ننأى؟ ومتى نقف على عمق الإشكالات بهدوء تحتاجه المعالجة. نقول المعالجة لا الإثارة؛ إذ لا علاج في الإثارة. الإثارة متعة بعمر ومضة، سرعان ما تتلاشى وتذوي. هل نعيد إلى الساحة تأزُّمها الغابر؟ وهل انتهت الأزمة أساساً كي نستدعي ملامحها الأولى، وما أدَّت إليه من تشوُّه المشهد، وتفاقم حال الاصطفاف؟ هل نعترف بوجود أزمة انسحبت على الثقافة بالمناسبة؟ برسْم القفز على واقع هذه الساحة، تكون الإجابة بالنفي. لكن هل يمكن للنفي أن يسهم بجزء من معالجة هذه الساحة؟ بعض يسأل ألا يتوجَّب أولاً أن تكون الساحة الثقافية مريضة أولاً كي تتم المبادرة في علاجها؟
الإلتباس... وضوح الإجراءات
في السؤال الذي يُراد له أن يكون ساذجاً؛ مادام يمسُّ عصب أوضاعنا العربية، ويطال الشئون جميعها: من قال إن الحياد أمام الحريق يمكن أن يضع حدَّاً له؟ كما هو الحال مع التورُّط في إلقام وإشباع نهم ذلك الحريق؟ إن كان لنهم الحريق من نهاية.
هذه الساحة تُعاني من إشكالات وأمراض لا حصر لها، ولن تستعيد عافيتها، ولا نقول عافيتها الكاملة، ما لم تعترف بتلك الإشكالات والأمراض. كيف لمريض أن يشفى ما لم يعترف ويواجه مرضه أولاً؟ سؤال يبدو عادياً، وكثيراً ما يتم القفز على تلك النوعية من الأسئلة بحجَّة أنها عادية؛ فهل واقع هذه الساحة عادي... طبيعي، وضمن المسار الذي يجب أن تكون عليه؟ والوجوب هنا لا يعني بالضرورة ارتهانها إلى مشاريع مُبتكرة وفارقة، بقدر ما يعني إصلاح وتنقية البيئة التي تطلع منها تلك الأشكال. لا حاجة لبشر لأشكال ومضامين إبداعية مبتكرة، في كون وعالم من المرضى والمُحتضَرين. نص الإنسان قبل النص الصادر عن الإنسان، تلك وصفة لم يدَّع أحد ابتكارها. ابتكرتها يقظة الحاسة بالتجربة.
وما يبدو مُلتبساً في المشهد الثقافي هنا، هو في واقع الأمر وضوح الإجراءات فيه. الإجراءات هنا ليست مُرتبطة بجهات بعينها، يُلقى عليها اللوم وحدها، بقدر ما هي مرتبطة أيضاً ببعض مثقفي هذه الساحة. ونعني بالإجراءات هنا فاعلية كل طرف في تأكيد قدرته على التعامل مع المشهد؛ ليس باعتباره ملكية خاصة، وليس باعتباره مشروعاً سهْل الاستيلاء عليه ومصادرته وتوجيهه، وفرض الإملاءات عليه، وليس باعتباره قاعدة لتغذية، أو استمرار مشروع الاصطفاف الذي حدث، ومازالت بعض جيوبه قائمة، وهو اصطفاف بالمناسبة يكشف عن حال الفصام لدى كثيرين، وفي الاتجاهات جميعها.
كأننا بحاجة إلى استدعاء حقيقة أن أزمات كثيرين لا تُختزل اليوم في ندرة الإصغاء، بل في ندرة الإقرار أيضاً! الإقرار بالأخطاء التي تتحوَّل إلى كوارث تصعب السيطرة عليها.
الاعتبار المُخادع
لا نحتاج إلى التذكير بما حدث - في تكرار ذلك رد اعتبار إلى النسيان، أو محاولة جعله الحكيم الذي لا اعتبار له حين تحصد الفتن الأخضر واليابس - لأنه عصيٌّ على النسيان. لا نحتاج إلى التذكير بمواقف المتحوِّلين، أولئك الذين ورَّطوا الثقافة في لعبة المذاهب والأديان، والانتماءات الضيقة، التي من المفترض أن يعمل المثقف خارج سلطتها، لأنه في نهاية المطاف ليس مُبشِّراً أو داعية، فليس ذلك دوره، ضمن عشرات الآلاف من الذين يتصدُّون لتلك المهمة والأدوار، سواء بمؤهل أو بـ «هبَل». بعض الذين ساهموا في تقسيم المثقفين إلى فسطاطين، ولنقلها صريحة، لا علاقة لهم بالمذاهب التي ينتمون إليها، من حيث الالتزام والممارسة، ولا علاقة لهم بالأديان أساساً، من حيث الالتزام والممارسة أيضاً، وما قاموا به لا علاقة له بالدور الحقيقي الذي يجب أن يلعبه المثقف؛ وخصوصاً في اللحظات المفصلية.
الهوية... أكزوبيري... عبدالجبار
ليس بعيداً عن فضاء التناول ذاك، حين يطل موضوع الهوية برأسه. هذا العصر عصر تذويب وإقصاء الهويات أيضاً، بغلبة هويات على حساب أخرى. كل ما تعلَّمه وسهر عليه المثقف لسنوات، سيتلاشى ويضمحلُّ ويذوب كفصِّ ملح، ببروز وانتباه العصبيات. الشرق أكثر استعداداً لإيقاظ تلك العصبيات من بين جهات الله وشعوب الأرض.
يجدر بنا أن نتوقف هنا عند قصة الطيَّار والكاتب الفرنسي أنطوان دي سانت - أكزوبيري (ولد في 29 يونيو/ حزيران 1900، ومات في مهمة من أجل فرنسا العام 1944. لم يُعثر على جثمانه إلا في العام 1988 على الساحل الفرنسي قبالة مدينة مرسيليا)، «الأمير الصغير»، والتي تعتبر من أشهر قصص أدب الأطفال في العالم، وهو يثير قضية الهوية والانتماء والنظر إليهما من قبل الآخر، بحسب ما يُشخِّصه النظر المباشر، دون أدنى اعتناء بما وراء ذلك، من خلال أحد الفلكيين الأتراك الذي يكتشف كوكباً، ومن الضروري أن يتم إعلان ذلك الاكتشاف في محفل علمي يحضره كبار علماء العصر، ومن بينهم علماء الغرب، وبعد أن يستعرض الرجل مراحل وتفاصيل اكتشافه، لا يصدِّقه أحد من أولئك العلماء بسبب الطربوش الذي يعتمره، في إشارة إلى عدم الاطمئنان والثقة بعقل يعتمر طربوشاً! يحاول العالم نفسه الترتيب إلى محاضرة أخرى لسرد ظروف وتفاصيل الاكتشاف أمام علماء الغرب، ولكن هذه المرة يرتدي بدلة «الفراك»، وهي بدلة يرتديها أبناء الأغنياء، ليحظى بعدها بتصفيق العلماء وإعجابهم بالاكتشاف.
الطربوش هنا، تأخذ المذاهب محله في الممارسة والنظر، في جغرافية لا تخطئها عين، وستجد بعض المثقفين، والمحسوبين عليهم، أول من يتبرَّع في تنشيط تلك الممارسة القميئة.
يُعلِّق عالم الاجتماع العراقي فالح عبدالجبار على تلك الحادثة بالقول: «لقد وقع الكوكب في مطبِّ الإنكار بسبب الطربوش، ونجا من مغبَّة النسيان بفعل بدل الفراك».
يسبق ذلك الاستشهاد بقيمة من رواية «الأمير الصغير»، التوصيف العميق الذي قدَّمه فالح عبدالجبار لموضوع الهوية، في دراسته التي حملت عنوان «أن تكون بهوية أو لا تكون»، وكتبت أساساً باللغة الإنجليزية، وتمت ترجمتها إلى الفرنسية، لتجد طريقها إلى العربية، ونشرتها مجلة «أبواب» في عدد قديم (العدد الثامن والعشرون)، في العام 2001، حيث يشير إلى أنه «قبل نشوء حضارة الاتصال الجماعي، كانت الهويات الثقافية برَّانية، على اختلاف أنماطها، من غطاء الرأس عمامة أو عقالاً، إلى اللباس، والنعال». في البيئات الواحدة التي تعايشت قروناً يمكن لتفاصيل الاعتقاد والمواقف أن تعبِّر عن هويات ترسمها الجماعات المضادة والمترصدة، في تشكيل كثيراً ما يستدعي النوايا، قبل أن يقف على حقيقة الاعتقادات والالتزام بها أيضاً.
هذه التنويعات في كتابة وتناول الشأن الثقافي، والمشكلات، أو الأزمات المرتبطة به، اتصالاً بإقرار هوية دون سواها، تريد أن تقول، أن المشكلات والأزمات تلك تبدو متنوعة - ظاهراً - لكن تأثيرها ومآلاتها واحدة، ولن تكون محمودة بأي حال من الأحوال. لن تكون محمودة بسبب «التعمية» وهشاشة الإطار الذي تقدَّم فيه «وهم الحقيقة»، واقعاً!
لا بأس، بل من المهم أن نعود إلى أحد كتب المفكر الجزائري، وصاحب المشروع الرائد في نقد العقل الإسلامي، محمد أركون، وتحديداً كتابه «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية»، الذي يُقرِّر في جانب منه أن «كل كتب التاريخ القومية أو الفئوية؛ سواء أكانت ذات استلهام علماني أم ديني تحمل في طيَّاتها بشكل ضمني أو صريح تحديدات معيَّنة للحقيقة، ومبادئ وأساليب معيَّنة لتشكيل المشروعية، ومحاجَّات لاهوتية أو فلسفية مصحوبة بشكل إجباري بنزعة لا إنسانية لم تتعرَّض لأي نقد. على هذا المستوى ينبغي أن نراقب اليوم جميع البرامج التعليمية المحروسة بكل غيْرة من قبل السيادات القومية من أجل تأبيد ما أدعوه بـ (الجهل الرسمي المؤسساتي)».
هل نأينا بهذا الاقتباس عمَّا تريد هذه الكتابة أن تُذكِّر به، وتنبِّه إليه؟