بسبب فشل السياسة في بلادنا العربية، انقلب المشهد العربي نحو العنف، لقد أصبحت الأحداث العنيفة المتتالية تتميز بالتركيز والتتابع. العنف الجديد أصبح في مواقع السياحة وفي الأوطان ومناطق السكن. وبسبب انتشار رقعة العنف، أصبحت الكثير من الدول في الإقليم في حالة تعايش معه ضمن حدودها وفي الدول المجاورة. تفتح الصحيفة وتقرأ كل صباح عن انفجار يحصد المئات في بغداد، ثم تتابع يومك بشكل هادئ قبل أن تسمع خبر حصد المئات في سورية ثم في اليمن وفي أوروبا وتركيا والخليج وغيره.
كان للعنف في الماضي نكهة أقل انتقامية، إذ كان محصوراً في بقاع جغرافية محددة من العالم العربي، وذلك منذ أن أدخلته الحركة الصهيونية لبلادنا عبر وسائلها المبتكرة في أواخر ثلاثينات ثم في أربعينيات القرن العشرين. في الستينات والسبعينات من القرن العشرين سيطر الكفاح المسلح الفلسطيني على الأجواء، وكان في جله مندفعاً لمواجهة الصهيونية في ظل قضية تحمل مضموناً إنسانيّاً. في السبعينات وقعت عدة حروب أهلية كالحرب الأهلية في الأردن ثم لبنان والحرب الأهلية في السودان وتطورت حرب أخرى في أفغانستان التي أسست لمرحلة الجهادية الإسلامية، ثم الحرب الجزائرية الأهلية في أواخر الثمانينات. مع ذلك بقي العنف في بقاع متناثرة.
العالم العربي في السابق قاتل في سبيل أرض سليبة في فلسطين، وعاش كل يوم مع خبر جديد عن الشهداء والتضحيات والآمال. أما اليوم فاختلفت المعادلة، فالعنف يحمل في طياته غيوماً ملبدة بالكراهية، وشعوراً بالظلم، ورغبة في الانتقام في ظل فقدان التفاؤل بالمستقبل. العنف من حولنا مرئي وغير مرئي، لكن العنف المخفي هو الأخطر. ففي السجون العربية عنف لا يحدُّه قانون، وفي الأجهزة العربية عنف لا يحدُّه حدّ، وفي الشارع العربي عنف يعبر عن مظالم تحولت لأحقاد بين فئات وطوائف وجماعات وتيارات سياسية وحكومات ومعارضات، وأنظمة انقطعت بينها لغة الحوار ولغة الحياة، لم تعد أفغانستان ساحة الساحات، ولم يعد الخارج الطرف الوحيد المتحكم بالعنف، وإن كان يؤثر عليه وعلى كل مراحله.
في تفسير هذا العنف يتضح أن العربي يتعرض للكثير من العنف. فهناك عنف ضمن الأسرة بسبب جمود الأسرة، وعنف في المدرسة بسبب تغير الجيل وجمود الإدارة، وعنف ضد المرأة وجرائم للشرف بسبب عدم قدرة القوانين والثقافة المجتمعية على مواكبة التغير الواقع في المجتمع العربي. العنف يصدر عن الأنظمة والأجهزة والمخابرات (التعذيب والاعتقال والتعسف) في ظل وسائل التقليل والإهانة القادمة من سلطات تعتقد بأن القوة والسيطرة مصدر قيمتها وليس الخدمة والإنجاز. كل هذا العنف يتفاعل مع الغرب في تدخلاته وحروبه المدمرة، كما ومع الصهيونية وسياساتها الاستيطانية والقائمة على الاقتلاع في فلسطين.
في القرن الواحد والعشرين العربي معنف عند ممارسته لحريته، ويسجن إن كتب قصيدة خارجة عن المألوف، وقد يعدم إن عبر عن رأي مخالف في دين أو دنيا في حاكم أم صاحب نفوذ، وهو معنف إن خرج عن الجماعة عند السنة أو الشيعة وإن خرج أيضاً عن الحزب والقبيلة كما والعائلة والأسرة وسلطتها. العنف الذي يتعرض له الإنسان العربي مركب، ولا يضاهيه عنف في الحضارات الأخرى لأنه سياسي واجتماعي وثقافي وديني وشمولي. العنف ناتج عن ضعف القناعة الثقافية والسياسية بالحقوق الإنسانية، والحريات الأساسية بين النخب. في ثقافة كهذه يتحول جيل جديد للعنف دون أن يعني هذا وضوح الأهداف والغايات والوسائل.
لقد تجاوز العنف الراهن الإنذار وهو مرشح للارتفاع، هذا العنف لن يهدأ بلا واقع يستوعبه ويقوده نحو تسوية. لم يعد الأمر مرتبطاً بإصلاح سياسي مبسط أو حرب على الإرهاب تتعامل مع النتائج وتتفادي الأسباب، بل بمدى المقدرة على إحداث ثورة عربية إنسانية واجتماعية وسلوكية وفكرية وسياسية تفتح الباب لنهضة تأخر قدومها.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5081 - الخميس 04 أغسطس 2016م الموافق 01 ذي القعدة 1437هـ