كان مساء نيس في 14 يوليو/ تموز العام 2016، مشحوناً بالكثير من الفعاليات الاحتفالية، وكان الناس قد خرجوا في ذلك اليوم، وهو يوم عطلة وطنية، باتجاه الواجهة البحرية الجميلة على الكورنيش البحري «بروميناد دي أنغليه»، في المدينة (جنوب شرقي فرنسا). وكان العرض للألعاب النارية، كما هو مألوف في هذه المناسبة، يُظهر ألواناً مختلفة تضيء سماء المدينة. في ذلك الوقت حيث يرتسم نوع من الرضا والبهجة على الناس، تندفع فجأة شاحنة تجاه الحشود المجتمعة لحضور العرض، يقودها سائق لتدهس حشداً من المحتفلين باليوم الوطني الفرنسي.
سارت الشاحنة بسرعة تتراوح بين 32 و40 كم في الساعة، واصطدمت بالبشر المحتفلين ودهست العشرات بينهم أطفال ونساء، وحصل تبادل إطلاق نار، ولقي سائق الشاحنة مصرعه، وعند تفتيش الشاحنة تبيَّن أنها محمّلة بالأسلحة والقنابل اليدوية. وكانت الحصيلة 84 ضحية ومئات الجرحى، بعضهم في حال حرجة.
وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد أعلن صباح يوم الهجوم، حيث الاحتفال بإسقاط سجن الباستيل الرهيب، (يوم الثورة الفرنسية 14 يوليو 1789) عن إنهاء حالة الطوارئ التي أعلنت في باريس بعد الهجوم الذي تعرضت له في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي 2015، وذلك بعد الانتهاء من سباق الدراجات الذي هو مقرر ضمن برنامجها الاحتفالي يوم (26 يوليو 2016)، وكانت فرنسا قد انتهت على التو من استضافة يورو 2016 (بطولة كرة القدم)، وشعرت بعد تدابير أمنية ضرورية بنوع من الاسترخاء والعودة إلى الحياة الطبيعية، لكنها عادت إلى حالة من الهلع والذعر والنقمة بعد حادث نيس الإرهابي.
ما أن أعلن عن الحادث، حتى حدّدت بعض وسائل الإعلام الفرنسية أن المرتكب عربي تونسي ومسلم، يدعى محمد لحويج بوهلال، وهو في الـ 31 من العمر، وقد ولد في تونس، ولديه تصريح إقامة وهو يعمل سائقاً في نيس، ولديه صعوبات مالية، وأن والديه منفصلان عن بعضهما، وهو معروف لدى الشرطة بأن له سوابق، ومرتكب لخمس جرائم جنائية سابقاً، ولاسيّما فيما يتعلق بالعنف المسلح، لكنه لم يتم تسجيله باعتباره خطراً على الأمن القومي.
ونقلت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده: أن الجاني قام بمجزرة القتل الجماعي، وهو يردّد عبارة «الله أكبر»، لكن مثل هذا الأمر لم يتأكّد، وإنما أريد به المزيد من التأليب ضد العرب والمسلمين.
الحملة الإعلامية والدعاية الغربية التي تناولت الحدث، ظلّت تؤكد أن المرتكب مرتبط بالإسلام الجهادي - الراديكالي بشكل أو بآخر، وأنه جزء من الإرهاب الدولي، سواء كان في فرنسا أو خارجها، إلا أن مثل هذه الادعاءات لم يؤيّدها وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف الذي قال: إنه لم يكن معروفاً لأجهزة المخابرات ارتباطه بالإسلام الراديكالي، أي أن دوافع المهاجم ليست دينية بالضرورة، وقد تكون ناجمة عن أمراض نفسية وحالات إحباط وشعور بالعزلة والاغتراب، وكثيراً ما يندفع مثل هؤلاء المرضى للقيام بأعمال عنفية - إرهابية انتقامية من الوضع المزري الذي يعيشونه.
وأعلن العالم العربي والإسلامي، بل والعالم أجمع تضامنه مع فرنسا ضد الإرهاب الدولي، وأعرب مجلس الأمن بأشد الحزم إدانة الاعتداء الإرهابي الهمجي والجبان، الأمر الذي يؤكد أن الإرهاب الدولي، لا وطن له، وهو يضرب في كل مكان ويتحرّك بطريقة زئبقية - انسيابية، لينتقل من ساحة إلى أخرى بين ما يسميها الدول المنافقة والصديقة والكبرى حسب تصنيفاتها.
والإرهاب لا دين له ولا هويّة ولا لغة ولا جنسية ولا إنسانية له كذلك. إنه عابر للحدود والأمم والقارات والدول والمجتمعات، لأنه يتعلق بكل عمل من شأنه أن يلحق ضرراً بالضحايا لأهداف تخدم الإرهابيين.
ولم تنتظر «إسرائيل» فرصة أفضل من هذه الفرصة لتلبس ثوب الإنسانية، فتعلن على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو «عرض إمكاناتها لمساعدة فرنسا على مواجهة الإرهاب» واستعدادها لـ «محاربة الشر حتى يهزم»، ووجدت في ذلك مناسبة لاتهام جميع فصائل المقاومة بالإرهاب على نحو متوازٍ مع تنظيم «داعش» و «القاعدة». والأكثر من ذلك قدمت «إسرائيل» نفسها كمقاول للخدمات الأمنية للدول الغربية، وقالت: إنها والغرب يواجهان عدوّاً مشتركاً، وفي ردّ على فرنسا التي مارست ضغوطاً عليها خلال الأسابيع الماضية لتحريك عملية «التسوية» دعا نتنياهو، الرئيس الفلسطيني محمود عباس للانضمام إلى المفاوضات وصوّره أمام العالم، بأنه يرفض تحريك «عملية السلام»، وذلك في كلمة باللغة الإنجليزية وجّهها إلى العالم بطريقة متلفزة.
إن التأثيرات النفسية والسياسية والفكرية لاعتداء باريس ستتجاوز فرنسا لتطال جميع دول الاتحاد الأوروبي، والغرب عموماً، والسؤال المهم عن الخيارات المتاحة التي ستتبناها العواصم الغربية، ولاسيّما واشنطن لمواجهة الإرهاب، وخصوصاً باستمراره كظاهرة، وما ألحقه من خسائر مادية ومعنوية، وبشرية بالعالم أجمع. وقد أكدت التجارب خلال العقود الأربعة الماضية ونيّف أنه لا يمكن كسب المعركة مع الإرهاب بواسطة الإجراءات الأمنية وحدها، أو بالاحتياطات البوليسية أو عمل الأجهزة الاستخبارية المحلية أو الدولية أو أي مواجهة تقليدية، بقدر ما يحتاج الأمر إلى استراتيجية أكثر حزماً وخطط طويلة الأمد، فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وتربوية، فالمعركة أكبر من حجم شاحنة أو طائرة أو سيارة مفخخة أو انتحاري أو حزام ناسف أو مجموعة صغيرة تقوم على غسل أدمغة بعض الشباب وإغوائهم.
الفكر الإرهابي بحاجة إلى دحضه بفكر نقيض أولاً، ومقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، وتقديم النموذج، وثانياً بالعمل الثقافي والاجتماعي، وثالثاً عبر خطط ومعالجات اقتصادية وتنموية، بتقليص مساحات الفقر والهوّة الشاسعة بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير، ورابعاً بالعدالة على مستوى النظام الدولي، ذلك أن استمرار دعم الغرب للاحتلال «الإسرائيلي» الذي يمارس الإرهاب بجميع صوره، يفاقم من تأثيرات السياسة ذات الأبعاد الانتقائية والممارسات الازدواجية، وعكس ذلك ستبقى خريطة الإرهاب منتشرة وممتدة وستظهر على سطحها نقاط مظلمة جديدة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5078 - الإثنين 01 أغسطس 2016م الموافق 27 شوال 1437هـ