العدد 5078 - الإثنين 01 أغسطس 2016م الموافق 27 شوال 1437هـ

«قبل زحمة الصيف»: خارج المكان الزمان... بعيداً عن النمط والمألوف

آخر أفلام المخرج الراحل محمد خان...

كما في كل أفلامه، يُغرقنا المخرج محمد خان، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة، في تفاصيل دقيقة لقصص وحكايات إنسانية عادية وبسيطة. نقف على ذلك في آخر أفلامه «قبل زحمة الصيف». الفيلم الذي عُرض أولاً في مهرجان دبي السينمائي الدولي في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2015، يتناول قصتين بسيطتين تتداخل تفاصيلهما بتقاطع زمان ومكان حدوثهما، تتناولان مشاعر إنسانية مُرهفة لكنها مشاعر جِدُّ واقعية، قد تُلامسنا بشكل أو بآخر لفرط واقعيتها وربما لانسجامها مع ما يجيش في صدورنا.

الزمان هو «قبل زحمة الصيف»؛ أي قبل بدء موسم الإجازات الصيفية وتدافع السيَّاح لقضاء إجازاتهم، في «المكان»، المتمثِّل في إحدى قرى الساحل الشمالي، مسرح أحداث الفيلم كاملة.

أما من تتقاطع تفاصيل حياتهم فهم الدكتور يحيى (ماجد الكدواني) الذي يُقرِّر الهروب إلى «شاليه» على الساحل الشمالي مع زوجته ماجدة (لانا مشتاق)، وذلك بعد تورُّط المستشفى الخاص الذي يملكه في خطأ إهمال جسيم، يُخضعه لتحقيق قانوني، وتتناوله الصحافة بالتعريض والهجوم والإدانة.

يجمعه الساحل مع المترجمة هالة «هنا شيحا» التي تبدو هي الأخرى هاربة من ضغط ما، تترك أبناءها مع والدتها على أمل أن يتولَّى طليقها مسئولية العناية بهم، متعذّرة بعمل «ترجمة» يتوجّب عليها إنجازها، لكنها تفعل ذلك في الواقع من أجل لقاء حبيبها، الممثل المغمور هشام (يقوم بدوره هاني المتناوي).

ومنذ بداية الفيلم، سيكون واضحاً بأن الدكتور يحيى من جانب، وهالة من جانب آخر، يمرَّان بمرحلة صعبة في حياتهما، ربما أمكن وصفها بحالة ضعف وهشاشة نفسيتين، هو لضعف موقفه القانوني ولحالة جفاء وفتور واضحة يعيشها مع زوجته ماجدة، وهي (هالة) لما يبدو وكأنها حالة انكسار عاطفي لا نعرف سببها تحديداً، لكننا نعلم أنها تحاول تعويض هذا الإنكسار بالترتيب للقاء هذا الحبيب «المغمور» الذي لا يستطيع أن يقدِّم لها الكثير، وخصوصاً مع عدم توقُّف هاتفه عن الرنين مُستقبِلاً مكالمات «نسائية»، وذلك طوال فترة تواجده معها وهي التي لم تتعدَ يوما واحداً.

وعودة إلى الدكتور يحيى، يبدو وكأنَّ زوجته ماجدة لا تشعر بالسعادة معه، بل يتضح كم الإحباط الذي تسبَّبت به علاقتهما لها. هي تؤثر الصمت على أية حال، وتفضِّل الاستغراق في تمارين اليوغا والتأمُّل بدلاً من التحاور معه، فيما يستغرق هو في أي عمل آخر يبعده عنها. يتشاجر مع البستاني يوماً لأنه يريد أن يعتني بحديقة الشاليه بنفسه، وحين تصل هالة للشاليه ينشغل بمراقبتها بشكل دائم، بل يصل به الأمر لأن يراقب سائحين أجنبيين يتبادلان القبل على ساحل البحر ويطلب من البستاني إبعادهما ومنعهما.

هالة من الجانب الآخر، تبدو متعطّشة لشيء من الاهتمام والدفء العاطفي، لذلك فإنها تتحمَّل أخطاء كثيرة من حبيبها، الذي لا يُقدِّم لها شيئاً في الواقع، بل إنه لا يعدها بأي حب أو إخلاص، حين تحدث المواجهة بينهما إثر تكرار استقبال هاتفه النقال للمكالمات النسائية.

يصل الفيلم «الهادئ البطئ في سرده» إلى ذورته حين تنفجر ماجدة في زوجها وتطرده من الشاليه إثر تراكمات عديدة منها اكتشافها أن زوجها المستغرق في عمله على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، يحتفظ في واقع الأمر بالكثير من الصور النسائية «شبه العارية»، ثم يثيرها بملاحقته لهالة وأخيراً بدعوته لها على العشاء.

ذروة الأحداث تتصاعد لدى هالة حين يغادر حبيبها الشاليه غاضباً إثر طلبها مزيداً من الاهتمام والإخلاص من جانبه. يرحل غاضباً مزمجراً، مُصرِّحاً بعدم قدرته على تقديم أي إلتزام أو اخلاص لها.

حالة الانكسار التي يعيشها الاثنان، الدكتور يحيى والمترجمة هالة، تصلنا عبر الايقاع الهادئ والبطيء الذي يغرقك في التفاصيل الصغيرة والواقعية وهو المعروف في كل أفلام الراحل محمد خان.

هذه الحالة هي ما تجمعهما معاً على مائدة عشاء، وهما في قمة انكسارهما، حين يسير منحى التحقيق ضد مصلحة مستشفى الدكتور يحيى، وحين يغادر حبيب هالة «المغمور» الشاليه غاضباً. يأتي اللقاء على يد يحيى حين يدعوهالة للعشاء، وتقبل هي دعوته. تتضايق الزوجة وتتعذّر بصداع يجبرها على النوم لكنها تراقبهما خفية.

يحيى لا يتقرَّب لهالة، ولا يريد الفيلم أن ينحو بهذا المنحى السينمائي «المبتذل»، بل إن تفاصيل وجبة العشاء التي تجمع هالة ويحيى لن تهمنا كثيراً، ما سيهمُّ المشاهد هو أن يحيى، يحب ماجدة زوجته كثيراً ويعبِّر لها عن ذلك أخيراً في مشهد حين تطرده من الشاليه وتقفل الأبواب، لكنه يريد امرأة جميلة متأنّقة تشاركه العشاء، تتبادل معه الحديث وتضحك لنكاته. من جانبها، لا تريد هالة سوى رجل يحيطها بشيء من الدفء والأمان العاطفيين، يثني على أناقتها وربما طهيها، ويهتم بتفاصيلها الصغيرة، و... يخلص لها.

أجمل ما في الفيلم أنه لا يُحاكم شخصياته، لا نعرف كثيراً عن ذلك الخطأ الطبي او الإهمال الجسيم الذي تورط فيه مستشفى الدكتور يحيى، ولا نعرف أصلاً عن المستشفى سوى كونه مستشفى خاصاً وأن زوجة يحيى ورثته عن والدها.

لا نعرف أيضاً عن هالة سوى أنها مطلقة، مترجمة، لديها أبناء تتركهم مع والدتها، محبطة، وتعيش حالة انكسار.

كذلك فإن الفيلم لا يُحاكم يحيى ولا هالة ولا يتوقف عند مسألة خطأ قراراتهما الحياتية من صوابها. الفيلم يركز على جزء أساسي من علاقة الرجل والمرأة ويسلط الضوء على احتياجات الرجل والمرأة من علاقتهما ببعضهما الآخر، وهي علاقة بحسب الفيلم نفسية قبل أن تكون أي شيء آخر، علاقة إنسانية بالدرجة الأولى، يتعامل معها كثيرون بسطحية وربما ابتذال بالغين، يشيِّئونها و»يجسدونها» في حين أنها، علاقة إنسانية أولاً. إنها علاقة إنسانية بالدرجة الأولى قد تصبح خارج المألوف كما هو مكان وزمان الفيلم خارج الصيف خارج المدينة خارج الضغوط.

على أية حال، لا أستغرب هذا الطرح المختلف، الواقعي، مُرهف الحس، البالغ في إنسانيته من الراحل محمد خان. هذا هو ديدن أفلامه، ولا أدلَّ على ذلك من فيلم «فتاة المصنع» الذي سبق هذا الفيلم، والذي قدَّم «حدُّوتة» بسيطة لكنها عميقة في تفاصيلها الإنسانية حول الفتاة التي تحب شاباً فيحاكمها المجتمع بأكمله لهذه المشاعر.

كذلك لا أستغرب أن تكون كاتبة سيناريو الفيلم امرأة وهي غادة شهبندر. فلا أقدر من إمرأة على تقديم سيناريو مفعم بهذا الكمِّ من الحساسية والرهافة، يهتم بأدق تفاصيل المشاعر الانسانية، لا العاطفية ولا الجسدية.

من المهم الإشارة إلى الأداء المميز للفنان ماجد الكدواني وهو ممثل أثبت وجوده في عدد من الأفلام في السنوات الأخيرة، كما أثبت قدرته على التألُّق في أداء جميع الأدوار والشخصيات.

وأخيراً، بقي أن نشير إلى بعض المشاهد التي تضمَّنها الفيلم وهي التي جعلته غير مناسب للمشاهدين الصغار، كما تسبَّبت بكثير من الانتقاد للممثلة هنا شيحا التي قدَّمتها، لكن بعيداً عن كل هذه التفاصيل وكل ما يمكن أن يعتبره صناع الأفلام «ضرورات» سينمائية، يمكن القول إن فيلم «قبل زحمة الصيف» الذي تدور أحداثه خارج المكان والزمان، هو فيلم يناقش العلاقة الإنسانية بعيداً عن الأنماط السينمائية المُبتذلة وعن الكليشيهات التي ألفناها وعرفناها؛ وخصوصاً في السينما العربية.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:04 ص

      شكلها قصة الفيلم شرباكة..
      واضح أن كل واحد منهم عايش حياة بروحة..
      بس اللي عجبني أن علاقة الدكتور مع هالة لم تتجاوز وجبة العشاء وبعض الأفكار..
      هذي بحد ذاتها تحتاج ثقافه..
      من اللي قرأته ..
      أحس أن أحداث الفيلم متكرره وتحمل نفس المضمون..
      يمكن الأختلاف في تفاصيل الفكرة اللي يحاول يوصلها المخرج ( علاقة الرجل مع المرأة )..

اقرأ ايضاً