في حوارية أوردها جورج أورويل في روايته «1984»، قال سام المؤيّد للإعدامات لمن يراهم أعداء لصديقه ونستون: «كان الشنق جيداً، أظن بأنهم يفسدونه عندما يربطون قدمي المشنوق معاً، أحب أن أراهم يرفسون بأقدامهم. لكن لحظة الإثارة هي اللحظة التي تأتي في النهاية عندما يتدلى اللسان مزرقاً إلى الخارج. تلك اللحظة تعجبني». حوارٌ شعرت معه بالاشمئزاز، وجعلني أقف عنده طويلاً، ِلمَ يفرح البعض بتعذيب الآخرين وقتلهم، بل لم يجعلونه مباحاً، هل هي حالة غير طبيعية، ولماذا تزداد على مستوى التطبيق، وتتمادى على مستوى الشعور والتأييد؟
الموت قدرٌ تخضع له القلوب، وتتسامى عنده الكلمات، ويقف الإنسان عنده لحظة صمت، لكن أن تتصدر الشماتة والفرح عنواناً لمشهد تتقاذف فيه الأرواح، وتسفك فيه الدماء غيلةً، فذلك البؤس الإنساني بعينه، وذلك هو التوحش. التوحش الذي ينسب إلى الحيوانات المتوحشة، ويعني الشراسة والخشونة، نراه ماثلاً أمامنا هذه الأيام، أكثر مما نسمعه في كتب التاريخ والروايات، حتى أصبح في حياتنا يوميات إن لم تكن لحظات.
في كتابه «إدارة التوحش»، والذي يعتبره النقاد أنه أيديولوجيا «القاعدة» ودستور «داعش»، يشير أبو بكر ناجي منظّر «القاعدة» الأبرز، بأن المرحلة القادمة هي «مرحلة توحّش»، بقوله «وإن التفكير في الحريات والعدالة وحقوق الإنسان هي أمور سخيفة وغير واقعية، بل إن علينا أن نتهيأ لمرحلة التوحش التي هي قدر وسنة لا تتخلف، وأن رسالتنا تتلخص في إدارة التوحش وليس في إيقافه». لقد ظلت الدول والحكومات طيلة القرون الماضية هي من تتصدّر الحروب وتشيع الفوضى، وتقتل الآلاف عبر معارك طويلة، وهجمات همجية، هدفها الثأر تارةً، والسيطرة والغلبة تارةً أخرى، أما اليوم فإن الجماعات والشعوب هي من تتصدر ذلك بشعارات مختلفة، وبأقنعة دينية ساذجة موغلة في الوحشية واللاإنسانية.
كان التاريخ حافلاً بتلك الجماعات، فالقبائل المغولية التي لم تكن لها حضارة إنسانية بسبب حياتهم غير المستقرة، لكنهم كانوا فرساناً، لأن أسلوب حياتهم كان مناسباً لترتيبهم العسكري، إذ أظهروا قدرةً فائقةً على الحركة السريعة، واختراق مسافات شاسعة في زمن قياسي فريد. قاد جنكيز خان قواته وسط صحراء يصعب اختراقها، فعبر أواسط آسيا وأثار الرعب في قلوب الناس، وأصبحت قصص القتل والحرق والدمار تذاع في المدن قبل قدوم جيشه الذي استطاع إسقاط مدينة سمرقند خلال خمسة أيام فقط، وهي مدينة بنيت بحيث لا تسقط إلا في سنوات، لكن جنكيز خان دمّرها ودمّر غيرها، طارحاً شعاره «أنا عقاب الرب». أشاعوا الفوضى والدمار والقتل، والآن جاءت جماعات كـ»داعش» وغيرها من تتبنى القتل، وكانوا أكثر جنوناً، ومنها أصبحت الجماعات البشرية شركاء في هذا العنف الأكثر قسوة، والذي يختار ضحاياه بشكل عشوائي يثير الاشمئزاز.
الوحشية التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته، بأنها طبع إنساني ومرحلة تاريخية لابد أن تمر بها البشرية في قوله: «اعلم أن حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر». والمشكلة لا تكمن في هذه الجماعة، بقدر ما تكمن في هذا التطبّع الذي يخلق مؤيدين ومتعاطفين مع سياسات القتل، وسالكين لهذا النهج الدموي خاصة مع المختلفين معهم، ما يعني أن الجماعة ولادة، ويعكس حالة بشرية فريدة يطرح معها هذا التساؤل: من هو المسئول عن ثقافة التوحش؟ الثقافة بوصفها نظام إنتاج وإعادة إنتاج لمفاهيم وأرضية خصبة لتلاقح المفاهيم الداعية للسلام والخير، وليس القتل والدمار، فهل تجد ثقافة التوحش سبيلاً للتغيّر، أم أنها بداية لعالم موغلٍ في التوحش والذبح؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 5075 - الجمعة 29 يوليو 2016م الموافق 24 شوال 1437هـ
عندما تتصدر الوحشية تذهب الرومنسية