تناولنا في الحلقة السابقة الرحى ومكوّناتها وتاريخ وجودها في البحرين منذ الحقب القديمة. وقد ارتبطت الرحى بعدة مهن متداخلة مع بعضها، فهناك صانع الرحى، وهناك القائم على صيانة الرحى، وهناك الطحّان الذي يعمل على الرحى. وعلى الرغم من قدم وجود الرحى، وارتباطها بتلك المهن التي كانت شائعةً في المجتمع البحريني القديم، وبقيت كذلك حتى عهد قريب، إلا أنه لا يوجد أي شيء موثّق حولها في البحرين، باستثناء بعض الإشارات البسيطة أو غير المباشرة.
يذكر أنه كان هناك حرفيون متخصصون في صناعة الرحى في البحرين قديماً، وكانوا يصنعون الرحى بأحجام مختلفة، منها الصغيرة، ومنها الكبيرة جداً والتي كانت تدار بواسطة الحمير (يوسف وآخرون 2010، ص 93). كذلك، فقد كان هناك القائم على صيانة الرحى وإصلاحها، والذي كان يعرف في الخليج العربي، وربما البحرين أيضاً، باسم «النچاس». أضف إلى ذلك، أن عملية طحن القمح أو الشعير بالرحى عملية شاقة، وتحتاج لمجهود عضلي كبير، ولذلك وُجِد من تخصّص في عملية الطحن بالرحى. هذه هي أهم المهن التي كانت سائدةً في المجتمع البحريني القديم والتي ارتبطت بالرحى، وسوف نتناولها هنا بشيء من التفصيل.
الطحان وصناع الرحى
إن عملية الطحن بالرحى عملية شاقة، وهناك من لا يحب عناء هذه المهنة، وبذلك وجد الطحان الذي تخصّص في مهنة طحن أو جرش القمح أو الشعير لتحضير الطحين أو الجريش. إلا إنه إبان الحرب العالمية الثانية، أي في أربعينيات القرن الماضي، حدث رواجٌ كبيرٌ لمهنة الطحان أو الجراش؛ وذلك بسبب الطلبات الكثيرة للجريش والطحين بسبب نقص الرز وغلاء ثمنه. وهنا نذكر بعض الإشارات التي ذكرت رواج مهنة الطحان، كما ذكرت صانعي الرحى.
جاء في كتاب «كرزكان: إضاءات على ماضيها وحاضرها» أنه في أواخر انتهاء الحرب العالمية الثانية، قرابة العام 1945، كان الغذاء الأساسي لعامة الناس هو الجريش، أما الرز فكان غالي الثمن. وبما أن الجريش كان يُباع غير محضّر، فقد راج عمل الطحان والجراش، وبدأ البعض يتخصص فيها. ومن الروايات التي وردت في هذا الكتاب: «كانوا (الناس) يرسلون أكياس الجريش إلى (بيت الخباز) الموجود في شمال غرب الجامع (في قرية كرزكان)، وهؤلاء يملكون رحى تدار من قبل الحمار الذي تغطى عينه وهو يدور ويطحن. وكان بيت الخبّاز هو المصنع الكبير والوحيد الذي يملك حق التخصص والعمل، على رغم وجود بعض الأفراد الذين يصنعون الرحى من أمثال الحاج عطية بن أحمد (والد أبو حيدر وأخوانه) كما يصرح بعض الآباء، إلا أنها صغيرة الحجم ولا تفي بالغرض المطلوب» (يوسف وآخرون 2010، ص 93).
ومن الإشارات أيضاً، حول رواج مهنة الطحان، ما ذكره الشيخ محمد علي الناصري، في كتابه «تنفيه الخاطر»، الجزء الأول، في قصيدةٍ يصف بها سنوات القحط في أربعينيات القرن الماضي «بسنوات الجريش»؛ ففي هذه السنوات لم يجدوا فيها إلا الجريش، والذي ربح من خلاله أولئك القائمون على عملية الجرش، ولكثرة القائمين على جرش الحبوب بالرحى يصوّر الناصري وكأن سوقاً خاصة بالرحى تم فتحها لهم، يقول الناصري:
أمعيشة ما بيها خير
متبدل العيش اشعير
أكل الخيل وأكل الطير
ودوم الخلگ ما تگدره
صاير على الأمة سخط
لا ينوكل لا ينسلط
لكنه من عظم الگحط
صارت الناس اتدوره
اتدوره ابزيادة مصلحة
وبعد الجرش ما تصلحه
وگامت الها سوگ الرحى
للجرش يا هي مسخرة
النچاس وإصلاح الرحى
تم توثيق مهنة النچاس (النكاس) بهذا الاسم وذلك في كل من كتاب «الحرف والمهن في دولة الإمارات» (2008، ص 188)، وكتاب «الحرف والمهن والأنشطة التجارية القديمة في الكويت» (2003، ص 277 - 278). هذا، ولم توثق هذه المهنة في البحرين، غير أن اسم النچاس، معروف في البحرين ومرتبط بعائلات محددة. والنچاس هو الشخص الذي يقوم بإصلاح الرحى و»تخشينها» عندما يصبح سطحها أملس (ناعماً) من كثرة الاستعمال حيث تترسب بقايا الحبوب المطحونة وغيرها من المواد تدريجياً على سطحها مع استمرار استخدامها مما يؤدي إلى امتلاء النتوءات والحفر الصغيرة على سطح الرحى، وتسمى المهنة «النِچاسة». ويستخدم النچاس أداةً خاصةً ذات جهتين حادتين تسمى المنچس (المنكس)، كما يستخدم المطرقة وأقلاماً حديدية ذات أطراف حادة وأدوات أخرى.
وقد خلت المعاجم العربية في المواد «نكس» و«نقس» و«نجس» من كلمة قريبة من هذا المعنى، بينما في اللغة الأكدية نجد الفعل نَكاسُ nakăsu بمعنى قطع الصخر أو الحفر فيه أو قطع الحطب أو قطع اللحم أو ذبح حيوان (CAD 2008, v. 11, part 1, pp. 171 - 180)؛ ومنها اسم الفاعل ناكِسُ năkisu، أي القصاب أو قاطع الخشب أو قاطع الصخر أو الحافر في الصخر (CAD 2008, v. 11, part 1, pp. 181 - 180)؛ ومنها الصفة نَكسُ naksu بمعنى الصخر المقطوع أو المقطع (CAD 2008, v. 11, part 1, p. 196). كذلك فإن العامة تستخدم الاسم «منچس»، بمعنى الساطور الذي يستخدم في تقطيع اللحم، ربما من الفعل الأكدي nakăsu أي قطع اللحم أو ذبح الحيوان (CAD 2008, v. 11, part 1, pp. 171 - 180). كل هذه الإشارات تشير، ربما، إلى أصل اللفظ (نچاس) من اللغة الأكدية.
الخلاصة، أن الرحى، قديماً، ارتبطت بعددٍ من المهن، منها صانع الرحى والقائم على صيانتها، وكذلك العامل عليها الذي يقوم بطحن أو جرش القمح أو الشعير. هذه المهن ما عادت موجودةً حالياً؛ حيث توجد المصانع المتخصصة في الطحن والجرش وإعداد أنواع مختلفة من الطحين والجريش. أما مهنة صناعة الرحى ومهنة النچاس (النكاس)، وهو الشخص المعني بصيانة الرحى، فهذه المهن انقرضت تماماً قبل أن توثق، ولم يعرف شيء عن الذين كانوا قائمين عليها.