كان مساءً ربيعياً رائعاً حينما اصطحبت عائلتي إلى مهرجان التراث الذي تقيمه الوزارة سنوياً في أيّام العيد. تجوّلنا في أنحاء المهرجان واطلع الصغار على صناعات الأجداد وحرفهم التي اندثرت وتعرفوا على بعض معالم الحياة القديمة، وعندما مررنا بقسم الطيور والدواجن أعجب ابني ذو التسع سنوات بإحدى الببغاوات العجيبات وألحّ عليّ في شرائها. ولما استفسرت عن سعرها رد البائع: 80 ديناراً، فاستنكرت هذا الثمن وانسحبت مسرعاً إلى موقع آخر. فراح الطفل يبكي ويترجاني لاقتناء هذه الببغاء فحاولت ثنيه تارة باللين والحيلة وتارة بالغضب إلا إنني لم أنجح، فاضطررت إلى الاعتراف له بأني لا أملك هذا المبلغ في جيبي. حينها طلب أن أشتري له زوجاً من عصافير الحب بدلاً من ذلك، فوافقت واشترينا العصفورين الجميلين ووضعناهما في كيس ورق مليء بالثقوب الصغيرة كما اشترينا بذور الحب التي يتغذيان بها.
حملناهما إلى البيت وأودعناهما القفص المتوسط الحجم وطبعاً كانت هناك ألفة وغرام بين هذين العصفورين اللذين ملئا البيت بهجة بتغريدهما العذب وحرارة الحب التي جمعت بينهما. وكان ابني وبقية أفراد العائلة يعتنون بهما خير عناية ويزودونهما بالأكل الخاص بهما ويملآن وعاء الماء كل يوم، وكنا جميعاً نوليهما اهتماما لائقاً ونحرص على وضعهما في المكان المكيف ونعمل على تنظيفهما بين حين وآخر.
وكانت الألفة بين العصفورين قوية جداً فالعصفور دائماً ملتصق بحبيبته، يدلًلها ويقبًلها ويمازحها بمنقاره ويطعمها الحَب في فمها ويتبادلان القفز في أرجاء القفص وهي سعيدة جزلة طوال الوقت مسرورة بهذا الدلال والاهتمام وكنا نستمتع بوجودهما معنا.
في أحد الأيام فوجئنا بمرض العصفور الذي بدت عليه علامات الحزن واعتكف ملتزماً الصمت في زاوية من زوايا القفص بعيداً عن محبوبته فقلنا إنه عارض صحي سيزول سريعاُ لكننا في اليوم الثاني وجدناه مرمياً أسفل القفص دون حراك، فتألمنا لرحيله ودفناه في التراب القريب من البيت.
بقيت العصفورة وحيدة تكسوها علامات الأسى وصار ابني يلح عليّ في شراء عصفور جديد يؤنس عليها وحشتها ويعيد إليها سعادتها وفعلاً توجهت معه إلى السوق الشعبي واقتنينا عصفوراً سماوي اللون، ذا جناحين منقطين بالأسود والأبيض، ذيله قصير وقد جذب أنظارنا بكثرة حركته وبتغريده الدائب. وما إن وضعناه في القفص اندفع نحو العصفورة البائسة وراح يهمس لها بلغة الغزل والهيام ونحن نراقب كيفية استقبالها له. فاندهشنا لتغير حالها السريع واندماجها مع القادم الجديد وعودتها إلى التغريد والحركة وإضفاء جو السرور.
كان هذا العصفور دائم الحركة، دائم التعبير عن ولهه وشغفه بعصفورته وكنا نسعد بمشاهدة هذين العاشقين وهما يعبران عما يشعران به من أحاسيس تجاه بعضهما البعض ونتمنى لهما أن يعيشا معنا لفترة طويلة.
وذات يوم أخرجنا القفص إلى الشرفة الخارجية لكي يستمتعا بالهواء الطلق والسماء الصافية وتركناهما لعدة ساعات. وعندما عدنا إليهما لاحظنا وجود جرح بليغ في رقبة العصفور وبعض الريش الساقط في القاع فأدركنا على الفور أن إحدى القطط الشرسات هاجمت القفص وأرادت افتراس العصفورين فما كان من العصفور المسكين إلا أن تصدّى لها ببسالة وتعرض للإصابة أثناء دفاعه عن نفسه وعن محبوبته.
حزنًا لما جرى للعصفور وحاولنا إسعافه بما توافر لدينا من أدوية بسيطة لكن صحته ساءت وفارق الحياة بسرعة.
أصبحت العصفورة وحيدة فريدة مرة أخرى فقررنا شراء رفيق جديد لها واتجهنا إلى المحل نفسه الذي اشترينا منه العصفور السابق وطلبنا من صاحبه أن يصطاد لنا عصفوراً جميلاً من الحظيرة الشاسعة الممتلئة بالعصافير.
أخذنا العصفور إلى البيت وأدخلناه إلى القفص ونحن نرقب ما يجري. فوجئنا بعدم انجذاب العصفورين لبعضهما البعض وعدم اقتراب كل منهما للآخر فقلنا لأنفسنا إنهما سينسجمان معاً بالتدريج وما هي إلا مسألة وقت.
مضى يوم ويومان والعصفوران صامتان لا يقترب أي منهما للآخر فاستنتجنا إن هناك خطأ ما وكان من السهل علينا أن نكتشف هذا الخطأ حيث كان العصفور الذي جلبناه أنثى وليس ذكراً كما أردنا وبالتالي كان من الطبيعي ألّا يحدث تجاوب وتجاذب بينهما.
فكرنا في استبدال العصفورة بعصفور آخر (ذكر) لكننا آثرنا الانتظار لمعرفة ما يحدث في الأيام المقبلة. ومضت الأيام واستمرت العصفورتان في التباعد والتنافر وعدم الانسجام فقررنا جلب عصفور ليسعدهما ويعيد البهجة إلى أرجاء البيت.
أحضرنا عصفوراً جديداً وبهرنا بما شاهدناه من الترحيب والشوق اللذين لقيهما من كلتي العصفورتين. كانت كل منهما تحاول استمالته إلى جانبها وتسعى إلى التقرب إليه وإرضائه. وبعد فترة وجيزة انقلب التزاحم على قلب العصفور المستمتع بهذا الدلال إلى غيرة وتشاحن بين العصفورتين اللتين ما انفكتا تتناوشان وتبغض كل منهما الأخرى وتكافح للاستفراد بالعصفور الجميل.
وفي صبيحة أحد الأيام جئنا إلى القفص وهالنا ما رأيناه. كانت العصفورة القديمة مضرجة في دمائها تلفظ أنفاسها الأخيرة.