سعيد أنت ونضالك صار وسمه
كتب تاريخ في كل فعل واسمى
يعيش اللي يحب الناس واسمه
نشيد وتظل أحلامه ضويه
كانت تلك كلمات الشاعر عبدالصمد الليث، وهو يُرثي بها رحيل سعيد بن محمد علي السلمان. هذا الرجل الأنيق دائماً منذ نعومة أظفاره، الذي جمعني به لقاء في يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2014م، وكان التاريخ متسقاً ومرتّباً بشكل عفوي، وكان ذلك في بيتهم الدافئ. وكنت قد أعددته للصحافة حينها وبسب كثرة الانشغالات وتقلُّبات الزمان، لم يُتح الوقت لنشره.
في ذاك اليوم، قال إن اسمه التام هو: سعيد محمد علي بن حسن بن السلمان بن إبراهيم بن عبدالله الخراراتي. وبقدر استغرابي لآخر اسم ورد في التعريف، بقدر ما سارع الحاج سعيد لتفسيره بالعودة إلى قصة إحدى القرى الصغيرة المندثرة من على خريطة المواقع الجغرافية في البلاد تقع في محيط قلعة البحرين التاريخية (قلعة البرتغال سابقاً) ولم تكن بعيدة عن قرية كرباباد، وكان يُطلق عليها «خرارات». وقال عنها: «كانت تلك القرية الصغيرة عبارة عن مزرعة مترامية الأطراف يملكها جَدّي علوي العلوي، استولى عليها عنوة أحد المتنفذين في ذاك الزمان. كانت منطقة زراعية بديعة جداً، وافرة الخضرة والثمار. وبما أن تلك القرية كانت مشهورة بتسريبات المياه الأرضية بها؛ فقد كانت تُسمّى «خرارات». وكنا في الصيف نقضي بها «المقيض»، حتى أن والدة حسن بن جواد توفيت بها». هذا ما قاله المرحوم سعيد السلمان؛ الذي قضي معظم سنوات طفولته في حواريِّ المنامة، وتعلّم فيها بمدرسة الإمام علي الابتدائية للبنين، وواصل تعليمه الذاتي بحرص كبير مركّزاً جهده على إجادة اللغة الانجليزية تحدّثاً وكتابة وبطلاقة ملفتة لمن عاصره وتعامل معه، وهذا ما انعكس أيضاً على تعليمه لأولاده على النهج نفسه.
بقاء اسم السلمان
وفي سؤالي عن بقاء اسم السلمان أشهر من الخراراتي في العائلة، ومن أين جاء هذا الاسم أساساً؟ أوضح: «أن السلمان جاء من الجد سلمان بن إبراهيم، ومن علوي السيدجواد السلمان، وهو أخ السيدعلوي السيدجواد الغريفي من الأم. وفي الغريِّ بالنجف الأشرف، هناك مقبرة الغريفية وبها قبر السيدجواد الغريفي، فذلك جدي أيضاً رحمه الله، كما أن جدّتي دُفنت هناك أيضاً. فقد كان جدّي ومعه العائلة يسافر في الزمن القديم بالمراكب بحراً من ميناء المنامة حتى رأس تنّورة ثم البصرة، ومن هناك يتوجّهون بَرّاً إلى النجف أو كربلاء. وفي إحدي تلك الزيارات توفي جدي في النجف فدفن هناك. وللعلم فإن علوي السيدجواد كان أسطورة وعلماً من أعلام البحارنة في القرن الثامن عشر الميلادي. وسيد محمود العلوي، وسيد شرف العلوي، هؤلاء أولاد الخال. فنحن بيت السلمان ننتسب للغريفية ولبيت العلوي أيضاً. فأصولنا لها تاريخ قديم نقدّره بمئات السنين، نحو 300 سنة. وكانت لدينا وثائق تتناول أصولنا وتاريخ العائلة عند ميرزا هزيم، وهو ابن الخال. ولكن جاء أحد العراقيين من متحف العراق، وأصبح زميل ميرزا وحصل منه على تلك الوثائق، وأخذها ولم يعدها للأسف حتى اللحظة».
وقد أضاف لهذه المعلومة، محمد جواد السلمان، عند بحثنا عن سبب التسمية، بأن لقب السلمان «هو نسبة إلى الحاج سلمان بن إبراهيم بن عبدالله، وهو جَدّ والدنا وجَدّ المرحوم الحاج سعيد، كما أن هناك العديد ممن كان اسمهم سلمان في تاريخ أجدادنا. والعائلة تمتد أصولها إلى قرية «الخرارات» المندثرة، وقد تحوّلت العائلة فيما بعد للسكن في المنامة منذ أكثر من 200 سنة، مع بداية تحوّل منطقة المنامة إلى مركز تجاري حديث آنذاك. والجَدّ الأول، حسن بن سلمان، كان تاجر لؤلؤ مشهوراً، وفي إحدى زياراته لبيع اللؤلؤ في الهند، توفي هناك في مطلع القرن العشرين ودُفن في مقبرة البحارنة بالهند».
السلمان وزمن اللؤلؤ
في سرد سريع لسيرة عائلة السلمان واللؤلؤ، ذكر لي الحاج سعيد، بأن علاقة العائلة باللؤلؤ تعود إلى زمن الآباء والأجداد. وكما قال :»فأجدادنا كلهم عملوا في تجارة اللؤلؤ، وأولهم الجَدّ الأكبر حسن السلمان، فقد كان تاجر لؤلؤ مشهوراً في البحرين. وحتى حسن جواد الغريفي، ومحمد حسن السلمان، وأبي محمدعلي السلمان، كلهم كانوا من أكابر تجّار اللؤلؤ في زمنهم. وعاصرهم من تجّار اللؤلؤ منصور العريض، والسيدخلف، وبن خميس، وبن شهاب، وعبدعلي بن رجب، وغيرهم. وبالمناسبة، فإن عبدعلي بن رجب كان يعمل مع الوجيه وتاجر اللؤلؤ المعروف في السنابس والبحرين كلها، أحمد بن خميس، الذي تعرّض للإفلاس أواخر أيامه فأصيب بحالة صحية أدّت إلى وفاته.
وكان لبيت السلمان مكتب قبل 75 سنة تقريباً استأجروه في عمارة بن مطر في سوق الطواويش في المنامة، وكان ذلك في فترة العشرينيات من القرن الماضي. وطوال تلك المدّة لم يزد عليهم بن مطر فلساً واحداً على الإيجار بسبب احترامه لهم. وقد كان متجر السلمان معروفاً جداً في سوق الطواويش آنذاك، كان مثل واحة الأصدقاء اليومية في وسط المنامة، ولابد أن تجد بها تجمّع تجّار سوق اللؤلؤ و «الطواويش» من كل حدب وصوب. وللعلم، فقد كان محمدعلي حسن السلمان، أشهر طوّاش في فترة العشرينات في المنامة، يذهب إلى الهند مع والده لبيع اللؤلؤ والمتاجرة به».
سفر والدي إلى الهند
وفي سرد جزء من السيرة يقول سعيد السلمان:» كان والدي يبقي في الهند لمدّة تزيد على ستة أشهر كل عام، فادخله جَدّي المدارس الإيرانية هناك، ليستفيد من وجوده علمياً في بلد متحضِّر كالهند. وكان مع والدي عمي محمد حسن، ومحمد جواد. تعلّم والدي الكثير، وجاء إلى البحرين وفتح مكتب «الطواشة» وتجارة اللؤلؤ مع أخيه، وحسن جواد. وقد رأيت اللؤلؤ الوفير، وأنا صغير السن، في دكّان الوالد بسوق «الطواويش»، وكنت أحضر وأشاهد كيفية المرابحة في البيع والشراء بين تجّار اللؤلؤ، وقد أدخلني والدي في مثل تلك المرابحة أحياناً لأتعلّم شيئاً منها. ومع الأيام نجح عملهم، ولكن أثّر كساد اللؤلؤ عليهم في نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات من القرن العشرين.
ترك والدي البحرين وسافر إلى الهند لعدم قدرته على تسديد الديون التي تراكمت عليه بسبب الكساد. فأرسل له السيدمحمود العلوي، السيدشرف العلوي، ليدعوه للعودة من الهند، مع تسديد الديون عنه. أما من كان معاصراً لهم، مثل تاجر اللؤلؤ منصور العريض وهذه المعلومة نقلاً عن أخي، لأنه كان بارعاً في التغلّب على قضية الكساد فلم تؤثّر عليه، حيث اتجه إلى سوق العقارات. ونجح في شراء العديد من البساتين والأراضي الزراعية في فترة الكساد من عنده أصحابها بمبالغ بسيطة في حدود 200 أو 300 روبية، بطريقة الدفع المؤجّل وبالأقساط المريحة، وهكذا كوّن ثروة عقارية كبيرة. أما أجدادي ووالدي فلم يتجهوا إلى هذا الطريق، فقد كان أهلي عندهم إيمان كبير بأن «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب». وجدي، حسن السلمان تزوج من بنت علوي السيدجواد، واسمها الهاشمية، وتوفي في الهند ودفن هناك، كما دُفن معه علوي السيدجواد.
وأصدقك القول، بأنه بعد كساد سوق اللؤلؤ لم يكن عندنا كسرة خبز نأكلها. فبعنا معظم أدوات البيت، ومنها بعض أدوات زمن اللؤلؤ مثل «البشتخته»، وأدوات الوزن من «طوس»، وأدوات الوزان، ودفاتر «الچو»، وغيرها، في ظروف الحرب العالمية الثانية ولذا لم نحتفظ بشيء منها. هذا كله جرى قبل زمن البطاقة التي ابتدعتها الحكومة في عهد المستشار (بلجريف). وبعد كساد اللؤلؤ، اشتغل أبي مع السيدمحمود العلوي في عمل بسيط، وبعدها أصيب بمرض القلب وتوفي هنا في البحرين.
كنا نسكن حينها في المنامة في البيت الملاصق لمأتم مدن، والذي تحول إلى موقع الطبخ فيما بعد. وللعلم ففي هذا الموقع أيضاً كان مقر الهيئة التنفيذية في فترة الحراك الوطني الواسع في الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت لي حكاية مع أهم فصوله، منذ أن بدأت، وتراكمت أوراقه حتى الستينيات من القرن العشرين، عندما بدأتُ العمل كموظف في شركة (ﮔـري وماكنزي)».
من اللؤلؤ إلى الوظيفة
عندما تخرّج من المدرسة ودخل معترك الحياة عن طريق سوق الطواويش، والوظيفة المستقرة لاحقاً، لم يكن عُمْر سعيد بن محمدعلي السلمان قد بلغ العشرين بعد، بحسب سنة ولادته كما يوضحها جواز سفره في العام 1938م. كانت الوظيفة المستقرة بعد نهاية عصر اللؤلؤ لسعيد وأخويه التي سعي لهم فيها، أحد معارف العائلة ويُدعى (محمدعلي تليمن)، هي في شركة معروفة بالشحن البحري والبواخر البحرية والنهرية، ألا وهي شركة (Gray, MacKenzie Co.)، أو ما اصطلحنا عليه في البحرين قديماً باسم مختصر هو (ﮔري- ماكنزي). وهي شركة أجنبية تأسست في البصرة العام 1840, وكانت تمثل الشركة الهندية البريطانية للسفن التجارية, وكذلك تمثل شركة (Lynch Brother Ltd) للملاحة النهرية في دجلة. وباتحادها مع (Gray, Paul and Company) التي تأسَّست في «بوشهر» العام 1865؛ تكوَّنت شركة عملاقة للنقل البحري والنهري في العراق والخليج مع الهند. وتوسّع عملها بسرعة إلى استيراد السلع البريطانية والهندية من بينها القطن، والبن، والأسلحة، والرزّ، وتصدير الحرير، والخشب، والتوابل. كما عنيت الشركة بتجارة التمور، والحبوب، والخيول العربية والفارسية الأصيلة، واستيراد «المكائن» من أوروبا. وكان لها أسطول كبير من السفن البحرية, وأسطول آخر من الزوارق والسفن النهرية, وتملك في (العشّار) بجنوب العراق، معملاً كبيراً لصيانة السفن وإصلاحها, افتتحته العام 1920. وتُعتبر الشركة كذلك وكلاء تأمين، ومقاولات بحرية. فتحت فروعاً لها في بندر عباس، ولنجه، والبحرين. كما كانت شركة (ﮔري- ماكنزي) هي الوكيل البحري في البصرة لشركة (BI) أي (British India Steam Navigation Company), والتي كانت تمتلك عشرات السفن العملاقة لنقل الركاب والبريد عبر البحار والمحيطات ولموانئ العالم كافة، ومنها سفن الركّاب المعروفة برحلاتها المكوكية المنتظمة بين الهند، والبصرة مروراً بموانئ الخليج, ومنها السفينة المعروفة بـ (Arabia).