العدد 5071 - الإثنين 25 يوليو 2016م الموافق 20 شوال 1437هـ

«تقرير تشيلكوت»... كم تقرير تحتاجه بريطانيا لتطهير ماضيها؟

رضي السماك

كاتب بحريني

في أقل من أسبوعين اهتزت بريطانيا بزلزالين سياسيين كبيرين: الأول وهو الأكثر تأثيراً وقد تمثل في إعلان نتيجة الاستفتاء الذي جرى في 23 من يونيو/ حزيران الماضي، بشأن البقاء او الانسحاب من الاتحاد الاوروبي، لصالح هذا الخيار الأخير، وحيث لم تزل التداعيات المدوية لهذه النتيجة مستمرة محلياً وعالمياً، أما الزلزال الثاني فقد تمثل في إعلان تقرير لجنة التحقيق في الحرب على العراق العام 2003، والذي صدر في 2.6 مليون كلمة في 6 يوليو/ تموز الجاري بعد مرور 7 سنوات من تشكيلها. ومع ان هذه اللجنة قد شكلها رئيس الوزراء الأسبق جون براون، وعلى رغم أيضاً من خلوها من أسماء قضائية وقانونية، إلا أن عملها اتسم بقدر معقول بالنزاهة والتجرد السياسيين، وكذلك الحال فيما يتعلق بتقريرها النهائي الذي نال احترام الجميع في بريطانيا وخارجها، ولم يتجرأ أحد على التشكيك في نزاهته بحجج موضوعية مُقنعة، وهذا ما يعكس بطبيعة الحال عراقة وترسخ النظام الديمقراطي لهذا البلد الأوروبي. وكان من الطبيعي أن يكون أكثر من عارض التقرير هم أنفسهم صقور الحرب الذين قرعوا طبولها، كالرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن، ورئيس الوزراء الاسترالي جون هاورد، بالإضافة إلى بلير الذي اعتذر مع اجتراره المقولة المبتذلة لمثله الأعلى بوش «إن العالم أفضل من دون صدام»!

وكما هو معروف فإن جوهر التقرير يخلص إلى الأكاذيب والأسلوب الديماغوجي الذي اتبعه بلير لتضليل شعبه؛ بغية تبرير انسياقه وراء المخطط الأميركي بقيادة جورج بوش الابن والذي وعده بالوقوف معه «مهما كان»، ومن ثمَ الانخراط الفعلي الأعمى في الحرب على العراق الذي مازال شعبه يدفع أثماناً كارثية غير مسبوقة على مدى تاريخه القديم والحديث من دمائه وقوته وعمرانه، وتفتيته وصراعاته الأهلية المذهبية والطائفية والإثنية، وكل ذلك تحت شعار إنقاذ العراق والمنطقة من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام وإسقاط نظامه وإحلال نظام ديمقراطي فيه. ومما جاء في تصريحات رئيس اللجنة جون تشيلكوت «استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحة البلاد، فالعمل العسكري لم يكن حينذاك حتمياً». وأضاف أن لندن «استندت إلى معلومات أجهزة استخبارات لم يتم التحقق منها بشكل كافٍ».

ولقد تسبب قرار بلير بتحالفه الذيلي لأميركا في حربها على العراق بمشاركة 45 ألف جندي بريطاني في قتل عشرات الألوف من العراقيين، واندلاع العنف الطائفي الحاد، وخلق بيئة مؤاتية لانطلاق منظمات ارهابية تعيث في أرض الرافدين فساداً، وترتكب مذابح جماعية متواصلة بحق العراقيين على مدى عقد ونيّف تقريباً من الاحتلال الاميركي البريطاني للعراق. كما أوضح التقرير أنه كان بالإمكان اتباع استراتيجية الاحتواء مع العراق، بدلاً من التسرع بشن الحرب والخروج والخروج عن برنامج الأمم المتحدة في أعمال الرقابة والتفتيش الذي مازال مستمراً عشية شن الحرب، وأن الحكومة قوضت سلطة مجلس الأمن في الحفاظ على السلام. كما اتهم التقرير حكومة بلير بأنها استهانت بعواقب الغزو وفشلت في التنبؤ بحال عراق مابعد صدام، وتسببت في مقتل 200 بريطاني وبمصرع مالايقل عن 150 ألف عراقي حتى سنة 2009.

بطبيعة الحال فلعل الخسائر التي تكبدتها بريطانيا في أعداد القتلى على رغم أنهم لم يتجاوزوا 200 قتيل، وفي المجالات الاقتصادية والعسكرية هي الباعث الأكبر على تشكيل لجنة التحقيق، وصدور التقرير أكثر مما تسببته الحرب التي شاركت فيها الحكومة من كوارث ومآس كبرى دامية، مازال الشعب العراقي يتجرع أهوالها، حيث جاءت الإشارة إلى هذه الجريمة عرضاً، وبالتالي فلا يُتوقع أن تعتذر بريطانياً رسمياً لا للشعب العراقي، ولا لحكومته عن جرائم مشاركتها في الحرب، دع عنك تعويضه وهو تعويض مُحق ومشروع، لكن قيمة التقرير إنما تكمن في قيمته المعنوية والأدبية على المستويين البريطاني والعالمي، في فضحه التضليل الذي مارسته الحكومة البريطانية بحق شعبها لتبرير خوض الحرب على الشعب العراقي، وهذا ما سيعزز الحاجة إلى توعية الشعب البريطاني ومؤسساته السياسية المدنية والإعلامية بأهمية اهتمامه بالسياسات الخارجية لحكوماته المُنتخبة، وبخاصة في قضايا الحرب والتدخلات العسكرية لما لها من انعكاسات سلبية عليه، وليس فقط انعكاساتها المدمرة على البلدان ضحية حروب التدخل.

مهما يكن فإن تقرير تشيلكوت يُعد من التقارير الرسمية النادرة لدولة عظمى غربية، عُرفت بماضيها الاستعماري الإجرامي المقيت، وإن اعترفت فيه بشكل عرضي وخجول بجرائم غزو عسكري ارتكبته بحق شعب سبق أن احتلته واستعمرته بمفردها خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) مثلما فعلت بمصر والسودان وفلسطين والأردن. وبهذا فقد ترك ماضيها الاستعماري المقيت جروحاً نفسية تاريخية نادبة، لم تُمحَ من نفوس هذه الشعوب مجتمعةً، فما الذي يمنع بريطانيا منذ انسحاب قواتها من كل تلك البلدان حتى الآن عن تشكيل لجان تحقيق تصدر تقارير عما إذا كان قرارها باحتلال كل من هذه البلدان ينبع من إرادة شعبية كاملة ويعبّر حقاً عن القيّم الديمقراطية التي تؤمن بها؟ أم ان تلك الغزوات نابعة عن مطامع طبقة شرهة تتناوب في السيطرة في الوصول إلى السلطة من خلال أحزاب محدودة وبشعارات براقة؟

ثم أين هي لجنة التحقيق في مدى قانونية وشرعية وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين العربية، ومن ثم دعمها العصابات الصهيونية سياسياً وبالمال والسلاح للهجرة إليها وصولاً إلى تواطؤها مع العصابات الصهيونية بالانسحاب من فلسطين، دون ترتيبات مسبقة مع ممثلي شعبها ودون اكتراثٍ بعواقب ما بعد الانسحاب والذي تسبب بعدئذ في نكبة شعب وتشريده، وتعرضه لسلسلة من المآسي والحروب الكارثية على أيدي الدولة الصهيونية الجديدة التي اغتصبت وطنه طوال نحو 7 عقود إلى يومنا هذا؟ دع عنك دعمها الدؤوب بعدئذ لهذه الدولة سياسيا واقتصادياً، وتنكرها لمساندة حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وسائر حقوقه السياسية؟

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5071 - الإثنين 25 يوليو 2016م الموافق 20 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 2:25 ص

      بريطانيا العظمى أم بريطانيا المجرمة ؟
      لطالما أجرمت في حق الشعوب منذ قرون ولا زالت . غريب كم النفاق والانتهازية والكذب الذي تمتعت به الحكومات البريطانية المتعاقبة لخنق تطلعات الشعوب نحو التحرر والعدالة والسلم !

    • زائر 1 | 12:56 ص

      من مظالم بريطانيا ما أوقعته على الشعب الفلسطيني والذي لايقل عنه ما أوقعته من إستعمار علينا كشعوب ...

اقرأ ايضاً