قبل مدّة تداولت وسائل الإعلام تحذيراً أطلقه عالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا، عن تعرض المجتمعات اليوم لما أسماه بحالة «نضوب جماعي للطاقة».
ونقلت ما أورده روزا في كتابه «صدى، دراسة اجتماعية لعلاقة الإنسان بالعالم»، الصادر حديثاً، أن هناك تزايداً في عدد الأشخاص الذين ينتابهم شعورٌ بأنهم يواجهون عالماً أبكم غير مكترثٍ بهم. وقال: «إن هناك مشكلة في علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، تتمثل في أن الإنسان أصبح يتعرف بشكل متزايد من خلال الكمبيوتر أو الهاتف الذكي على العالم المحيط به، وأن كل ما نفعله تقريباً، من العمل واللعب والاتصال، أصبح الآن يتم عبر الشاشة».
روزا أكّد ما يردّده علماء النفس والاجتماع دائماً، من أن سعادة الإنسان لا تقاس بالراتب الجيد والمنزل الجميل والأولاد الأصحاء، فربما شعر الإنسان بالإحباط رغم امتلاكه كل هذا، فهذه العناصر لا تعدو كونها موارد، وقال: «لذلك علينا أن نتحدث عن الحياة الناجحة بشكل آخر، أعني أن الأمر يتوقف في ذلك على كيفية ارتباط الإنسان بالعالم». ورأى «أننا نعيش في مجتمع تتزايد فيه أعداد الذين يرون أنهم يعيشون في مجتمع أبكم غير مكترث بهم، والنتيجة هي إرهاق ونضوب جماعي للطاقة... فالناس الذين يعيشون حياة ناجحة لديهم علاقة حيّة بالآخرين على سبيل المثال، وبالطبيعة وبعملهم. الحياة لا تصبح ناجحةً بمجرد أن نكون أصحاب مصادر وموارد كثيرة».
على صعيد متصل بالموضوع، كتب الباحث السعودي توفيق السيف قبل أسابيع عن «المجتمعات المتحوّلة»، وذكر أن المجتمعات العربية تحوّلت إلى «فاعل سياسي» نشط نسبياً بعد نصف قرن تقريباً من الخمول. وذكر أن الثقافة السياسية السائدة تحوّلت من ثقافة انفعالية إلى ثقافة تفاعلية، وتُعرف الثقافة السياسية كحالة ذهنية تتشكل على ضوئها رؤية المجتمعات لنفسها وللدولة. ففي الحالة الانفعالية يشعر المجتمع بتأثير الدولة عليه، لكنه لا يقابلها بأي نوعٍ من ردود الفعل، لا يساعدها ولا يعارضها، فهو مجرد عامل منفعل، وهي سمة غالبة في المجتمعات الريفية.
أما في الحالة التفاعلية، فالمجتمع مُدرك لتأثير الدولة عليه، ومدرك أيضاً لقدرته على التأثير فيها، قليلاً أو كثيراً، ولذا فهو يميل إلى علاقة تفاعلية تنطوي على تعاون حيناً، ومعارضة حيناً آخر. وهذه هي الحالة التي تتجلى فيها قابلية المجتمع للمشاركة السياسية.
ويُنبه السيف إلى أن أهم سمة من سمات «المرحلة الانتقالية» التي يشهدها المجتمع العربي تتمثل في «غياب الإجماع»، بسبب انحسار الأعراف والتقاليد التي كانت تلعب قبلئذٍ دور ضابط للحركة الاجتماعية، وتمثل أرضية القيم ونظام العلاقة بين أفراد المجتمع، ولعل أبرز الأمثلة على التحوّل هو التمرد العلني على القيم والضوابط ومراكز النفوذ الاجتماعي القديم، وظهور شخصيات مرجعية ومراكز تأثير غير تقليدية، أي تراجع أهمية بعض الأدوار الاجتماعية السابقة لصالح أدوار وأفكار جديدة، والمثال البارز هنا هو استيلاء نجوم مواقع التواصل الاجتماعي ومنتجي الفنون التلفزيونية والدرامية على دور المثقف التقليدي ورجل الدين في توجيه الرأي العام.
السيف يرى أنه بتنا نعيش «تحولاً متسارعاً للسلوك الجمعي من حالة الانفعال والتلقي إلى حالة الفعل. لكن هذا الفعل لايزال قاصراً على النقد والاحتجاج، ولم ينتقل بعد إلى مرحلة المشاركة في بناء قيم وأعراف جديدة تؤسس لإجماع جديد. بعبارة أخرى، فقد تحوّلنا من حالة سكونية إلى حالة تمرد، ينبغي أن نستبدلها بحالة جديدة مختلفة، سمتها الأبرز التفاعل والمشاركة».
وما يطرحه السيف يبدو مثيراً من الناحية النظرية، ولكنه لم يقدم تفسيراً مقنعاً تدفع قراءه للإقتناع بأن المجتمعات العربية تحوّلت بالفعل إلى «فاعل سياسي نشط نسبياً بعد نصف قرن تقريباً من الخمول»، والحال أن هذه «الفاعلية» لم تكن وليدة اليوم بكل تأكيد، ولكنها حسب الاختلاف في الأدوات، والتوسل بفضاء إعلامي مفتوح قادر بسهولة على مخاطبة الرأي العام والوصول بصوته إلى أبعد مدى.
وهو حين يشير إلى تحوّل مجتمعاتنا من حالة سكونية إلى حالة تمرد، يدعو إلى ضرورة تجاوز هذه الحالة وصولاً إلى ما يسميه بـ «الحالة الجديدة»، التي تتسم بـ «التفاعل والمشاركة»، ولكن كيف؟ كيف يتحقق هذا الأمر – وهو مطمح أغلب القوى السياسية - مع غياب أي فرصة لتبلور واقع سياسي واجتماعي قادر على استيعاب تحول بهذا الحجم؟
إن البنية الاجتماعية التي تنعدم فيها فرص الحوار والمشاركة والتفاعل، تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى بنية موحشة يكثر فيها الضجيج والفوضى والنقاشات التافهة والمعارك المفتعلة الصغيرة، وتنحسر فيها الاهتمامات الجادة ويغيب الاهتمام بالقضايا الكبرى، وبالتالي تنضب حيوية المجتمع.
أخشى أننا نواجه حقاً ما كان حذّر منه عالم الاجتماع الألماني هارتموت روزا، من تزايد عدد الأشخاص الذين ينتابهم شعورٌ بأنهم يواجهون عالماً أبكم غير مكترث بهم.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5071 - الإثنين 25 يوليو 2016م الموافق 20 شوال 1437هـ