أمسكت نفسي مرتين في موضوع «تقاعد النواب»، غير أني لم أستطع الصمود في المرة الثالثة!
المرة الأولى كانت عندما أقر النواب أواخر الشهر الماضي مشروع القانون المذكور، وكان الحديث عنه حينذاك بالغ الإثارة، ووددت حينها أن أكتب معلقا، غير أني وجدت أن الصمت عن التعليق في هذا الأمر «من ذهب»، أما المرة الثانية فكانت في الندوة التي أقامتها جمعية الوفاق بمقرها بالزنج يوم أمس الأول عن ذات الموضوع بمشاركة نائب رئيس كتلة الوفاق خليل المرزوق، والأمين العام لجمعية «أمل» الشيخ محمد المحفوظ، فبرغم رغبتي الشديدة في طلب الحديث إلا أنني التزمت الصمت مجددا، ربما لأنني وجدت أن الحديث لن يقدم أو يؤخر شيئا، أمام شارعين مشحونين تجاه بعضهما البعض.
اعتقدت جازما - ومازلت - أن الخوض في الموضوعات التي هي على شاكلة «تقاعد النواب» هو خوض غير مأمون العواقب وقد يجر إلى الفتنة التي لا خلاص منها إلا بأن تكون «كابن اللبون»، ذلك أن أي طرف يؤمن بهذا النهج أو بخلافه لن يستمع لصوت العقل، ولن يدخل حوارا هادئا عقلانيا، قد يوصله للقناعة التي قد تبدل رأيه أو تثبته. كما أن إثارة مثل هذه الموضوعات في هكذا أجواء لا يؤمن فيه من تجييش العواطف، والاصطفاف يمينا أو شمالا، لذلك سأبقى ممسكا بنفسي ولن أناقش التقاعد، صحيحا كان أو خطأ، حقّا كان أو «سرقة» لأني أعلم أن كل طرف سيعمل على «جر النار إلى قرصه».
نعم، الحقيقة بنت الحوار، ولا عاقل يدّعي أن الحوار غير مجدٍ، لكنه ليس الحوار المتشنج، وليس الحوار الذي يأتي بناء على قناعات مسبقة لا تتزحزح، وليس الحوار الذي يأتي لإشباع رغبة الانتصار، ولا الحوار الذي يأتي في جو متوتر. الحوار المنتج هو الحوار الهادئ الرزين الذي تبتعد فيه العامة وتقترب منه النخب، فالجماهير التي احتشدت قبل يومين من الفريقين لم تأتِ حقيقة لتسمع عقلها، بل جاءت - في أعمها الأغلب - ملبية لنداء العاطفة وللنصرة والمؤازرة، لذلك فهي خرجت بذات القناعات التي دخلت بها الندوة.
لقد تحول الاختلاف في موضوع فيه ما فيه، إلى خلاف بين القيادات في الجمعيتين، وكأنه لا يكفينا ذلك الشقاق الآخذ في الاتساع بين مريدي الجمعيتين، ومن يظن أنه بعد كل ما جرى ستهدأ الأنفس فهو مخطئ، لأن الشارع سيزداد انقساما وتشنجا وتوترا.
لقد تحول الخلاف بين الطرفين وبين القوى الوطنية التي يفترض أن تكون الأكثر وعيا وقدرة على ضبط النفس إلى مادة «دسمة» لسخرية من هم أهل للسخرية أصلا. وهنا ليس بإمكاني أن امسك نفسي، وسأقول لكل من الإخوة في جمعية الوفاق وأمل... يكفيكم ما وصلتم إليه من شقاق.
نعم ما هكذا تورد الإبل، فلأي شيء كانت ندوتكم هذه، هل كانت لنشر غسيل قطبين من أقطاب المعارضة؟ وهل كانت لإثارة البلبلة وتعميق الشرخ بين قواعدكم الشعبية؟ وهل كانت لأنكم انتهيتم من الحديث مطولا عن سرقات الأرض والبحر؟ وناقشتهم باستفاضة ملفات التجنيس والتمييز والطائفية والفساد والفقر؟
اعذروني إذا ما قلت لكم إن ذلك هو ما تحقق من «المناظرة» التي أردتموها، وهي حقيقة لم تكن بينكم أيها المرزوق والمحفوظ، بل كانت بين مريديكم وجماهيركم، فهل تغيرت القناعات يا سادة؟ وهل أوصلتم الرسائل لبعضكم البعض؟ هل خرج أحدكم منتشيا بالنصر، فرحا بما قدم؟
قد يقول الطرفان: البادئ أظلم، ومن طرق الباب يسمع الجواب. نعم... لكن في المواقف الصعبة هناك «الصمت»، فهو في مثل هذه المواقف «أوضح رد» لكنه يولد الاحترام بعكس الصراع والجدل الذي يولد التنافر والحقد.
اليوم لسنا بحاجة لمزيد من التنازع، أو رفع الأصوات، فليس صاحب الصوت الأعلى هو الغالب أو المنتصر، اليوم لتكن برامجكم وأعمالكم هي الصوت الأعلى، فلسنا محتاجين أبدا لخلق نزاعات جانبية على قضية هي مهما علت تظل قضية جزئية، وصدقوني فلا أحد يزايد عليكم، كلكم تعملون من أجل الوطن، وكلكم يجب ألا ينشغل بغير قضايا الوطن.
إذا أردتم أن تتنافسوا على «الناس» فتحدثوا بهمومهم، تحدثوا عن التجنيس الذي ينخر في جسد البلاد والعباد ليل نهار، واستغرقوا بالحديث عن التمييز الذي حرق الأخضر واليابس، ولترتفع أصواتكم بأعلاها في ملفات الفساد وسرقات الأراضي، فإذا انتهيتم من هذا كله تعالوا لما أردتم!
أجزم أننا اليوم لسنا محتاجين للتنازع لا على تقاعد النواب، ولا حتى على زيادة مكافآتهم، فما لدينا من ملفات وطنية أجدى أن نصرف جهدنا فيه، وأجزم أيضا أن على الإخوة في الوفاق وأمل أن يغلقوا باب التناحر بينهما على الموضوع، ولكل منهما أن يقدم وجهة نظره في هذا الموضوع من دون الحاجة لمثل هذه الأجواء المتشنجة التي إن لم تصبكم كقيادات ونخب بنارها، فلا مأمن من أن يصاب بها شارعكم في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للم الكلمة ونبذ الفرقة.
إقرأ أيضا لـ "حسن المدحوب"العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ