هل تحقق إيران مفاجأة لبنانية في الانتخابات الرئاسية؟ غالبية اللبنانيين تنتظر اللحظة باعتبار أن هذا البلد الصغير عانى الكثير من تصريحات محمود أحمدي نجاد «الطاووسية». فالرئيس الإيراني أطلق الكثير من الصواريخ الايديولوجية من ساحة بلاد الأرز مهددا «إسرائيل» بالحرق والاقتلاع وتدمير المشروع الأميركي - الصهيوني اعتمادا على شعب لبنان المسكين.
نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية وجهت رسالة واضحة للقيادة السياسية الإيرانية. فالتصويت الذي جرى في 7 يونيو/ حزيران الجاري ليس ضد ثقافة المقاومة والاستراتيجية الدفاعية وإنما ضد محاولة تحميل لبنان الصغير مسئوليات قومية وعربية وإسلامية واستراتيجية عظمى أكبر من قدراته الجغرافية والسكانية والاقتصادية والعمرانية. التصويت كان ضد المبالغة التي ورطت البلد في مشكلات أكبر من حجمه وكادت أن تزعزع أركان كيانه. اللبناني متواضع ويعرف إمكاناته ويدرك أن خبراته وتكوينه وتشكيلته الطائفية - المذهبية لا تساعد على إطلاق طموحات متطرفة ومغامرة لا يقوى وحده على تحمل تبعاتها وتداعياتها. فاللبناني يعلم أنه لا يستطيع بمفرده تحرير فلسطين وتقويض الولايات المتحدة. وهذا أضعف الإيمان.
اللبنانيون ينتظرون لحظة التغيير في إيران لأنهم باتوا على قناعة تؤكد حاجة البلد الصغير والمسكين إلى فترة نقاهة تعطي فسحة زمنية لإعادة قراءة الخطاب السياسي وتكييفه مع التحولات الدولية والإقليمية التي يمكن أن تساهم في تعديل خريطة التحالفات والتوازنات في «الشرق الأوسط». وبهذا المعنى يدرك اللبناني أنه قام بواجباته ودفع الثمن على مختلف المستويات والمناطق في وقت كانت كل الجبهات تلوذ بالصمت. فهذا البلد تلقى مئات آلاف القذائف والصواريخ وانهالت على قراه ومدنه ومؤسساته ومدارسه وجسوره ومطاراته ومصانعه ومحطات توليد الطاقة وغيرها من مرافق وموانئ آلاف الغارات عقابا على سياسة لا يتحمل وحده مسئولية فشلها. وضمن هذا الطموح المتواضع يرغب اللبناني رؤية مشهد التغيير في إيران حتى يستطيع إعادة التموضع في إطار استراتيجية الدفاع وإنتاج موقعه الخاص في سياق المشاركة المحسوبة ضمن المنظومة الإقليمية. فهذا البلد الصغير جزء من المشرق العربي ولا يستطيع أن يشكل البديل الاستراتيجي عن لعبة الدول في منطقة «الشرق الأوسط».
لهذه الاعتبارات السيكولوجية الخاصة يراقب اللبنانيون انتخابات الرئاسة في إيران وينتظرون أن تعطي إشارة إيجابية باتجاه المصالحة مع بلاد الأرز وترتيب العلاقات المتوازنة تحت سقف التضامن الإقليمي الذي يحترم حدود المصالح المحكومة بالجغرافيا والتاريخ. فهل يستجيب القدر لهذه الأمنية اللبنانية؟
هناك موانع كثيرة تعترض هذه الرغبة في اعتبار أن الحسابات الإيرانية تختلف نموذجيا عن القراءات اللبنانية. فالحسابات في طهران تتأسس على نموذج انتخابي يخالف في قنواته وتصوراته أحلام بلاد الأرز. والقراءات اللبنانية تتأسس على فرضية تقول بأن «تيار المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة خرج مهزوما من إدارة البيت الأبيض وبالتالي لا بد أن يخرج المقابل الإيراني من الرئاسة التي تحكم في طهران.
هذه المعادلة المتقابلة (إيران/ أميركا) ليست بالضرورة دقيقة. حتى لو كانت كذلك فإن ما حصل في واشنطن لا يمكن سحبه آليا على ما يمكن أن يحصل في طهران غدا. التغيير في إيران له شروطه الداخلية التي تقوم على توازنات مخالفة تبدأ بإعادة هيكلة الرؤية السياسية للقيادة في طهران. فهل القيادة أصبحت على قناعة بأن أحمدي نجاد أضر بسمعة إيران وأضعف علاقاتها مع دول الجوار العربية وغير العربية وعزلها دوليا وكشف إمكاناتها وقدراتها في إطارها الجغرافي؟
الإجابة تتطلب قراءة واعية للمصلحة الإيرانية في لحظة دولية انتقالية يمكن أن تشكل فرصة نادرة للبدء في التفاوض لإنقاذ البلاد من عزلة إقليمية أخذت تنمو تحت سقف هواجس الخوف والقلق. فإيران بحاجة إلى محيطها الجغرافي وهي لا تستطيع أن تبقى في موقع يعزز المخاوف ويعطي ذريعة للولايات المتحدة أن تؤسس جبهات تعطل على طهران استكمال مشروعها التنموي والتحديثي، وربما تؤدي إلى تقويضه.
المصلحة الإيرانية الآن تقتضي المراجعة وإعادة قراءة الخطاب السياسي باتجاه تعزيز لغة التساكن والتعايش والتراضي مع المحيط العربي. والمراجعة المطلوبة يمكن أن تساهم في إنقاذ الاختراقات التقنية التي حققتها إيران على المستويات الصناعية المدنية وغير المدنية. وضمان الإنجازات التي تحققت خلال 30 سنة من الحصار والتضحية يحتاج فعلا إلى قيادة سياسية واعية تدرك أهمية حماية ما أنجز وعدم المغامرة والتفريط به في لحظة غضب.
التقدم الإيراني في بعض القطاعات التكنولوجية كلّف الخزينة مئات المليارات من الدولارات. والتراكم المعرفي والميداني الذي تحقق خلال هذه الفترة أصبح ثروة قومية يمكن تعزيزها وتطويرها وتوسيعها وتعميمها وتسويقها وإدخال أطراف عربية وإقليمية في مظلتها حتى تستطيع المنطقة التقدم سوية في عالم يتغير بسرعة قياسية ويحتاج إلى التعاون والانفتاح لا الانغلاق والانزواء في دوائر ايديولوجية ضيقة.
بهذا المعنى التقدمي يمكن رؤية المصلحة الإيرانية ومن هو الرئيس الصالح لحكمها وحمايتها وتحسين علاقاتها مع الجوار وتصحيح تلك الأخطاء التي ارتكبت بحق المحيط العربي والإقليمي.
أحمدي نجاد ليس الرئيس المناسب في مرحلة انهارت فيها «إدارة تيار المحافظين الجدد» في واشنطن وبدأ خلالها المشروع الأميركي بالتراجع ويخطط الرئيس باراك أوباما لإعادة ترتيب مواقعه في منطقة حيوية وغنية واستراتيجية. هناك فرصة سياسية لإيران أن تتصالح مع نفسها وجيرانها والعالم. وهذه الفرصة قد لا تتكرر إذا لم تسارع القيادة السياسية إلى إدراكها والتقاط مؤشراتها على مختلف الأصعدة.
هذه المفاجأة ينتظر اللبنانيون حصولها حتى تشكل مناسبة للعبور من مرحلة إلى أخرى. فاللبناني بات على قناعة سياسية وبعد تجارب طويلة ومريرة أن بلاد الأرز لا تستطيع وحدها تغيير العالم وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر وتعديل خريطة «الشرق الأوسط» والإطاحة بالاستراتيجية الأميركية. كذلك إيران فإنها مهما بلغت من القوة لا تستطيع أن تغير وحدها خريطة العالم وتبدل الموازين وتعدل المواقع منفردة. حتى الولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا وغيرها من الدول الإقليمية الكبرى والصاعدة (الهند والبرازيل مثلا) بدأت بالخروج من هذه الدائرة الوهمية وأخذت تجنح نحو تعزيز فكرة المشاركة في الإدارة والتخطيط لحماية مصالحها من التراجع والانهيار.
الواقعية السياسية تتطلب فعلا عقلية تسووية (تصالحية) تعتمد لغة الأرقام وتتجاوز الطموحات الوهمية التي تتولد منها تصريحات بخارية لا وظيفة لها سوى توتير المنطقة وزعزعة علاقاتها المأزومة أصلا وإعطاء ذريعة للولايات المتحدة بإعادة تنشيط مشروعها التقويضي الذي أصيب بالإرهاق وتراجع بخروج «تيار المحافظين الجدد» من إدارة واشنطن.
إيران قوية ولكنها ليست أقوى من دول الجوار. وهي لا تستطيع التغيير من دون مشاركة إقليمية تساعد على تأمين حماية للمصالح المتبادلة وعدم تعريضها مجددا للتقويض والتدهور بسرعة قياسية باتجاه العصر الحجري.
اللبنانيون اقتنعوا بهذه المعادلة المتواضعة وأقدموا على توجيه رسالة بسيطة في 7 يونيو فهل أصبحت القيادة السياسية في إيران على السوية نفسها من القناعة؟
الجواب ينتظر لحظة إعلان نتائج الاقتراع.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ