لكل بلاد ملامحها. ولكل مجتمع طبائع وتفكير مختلف. فالأرض التي يُداعب ترابها موج البحر تكون أكثر انفتاحاً من تلك التي تأكل خيالها وتُعصِّب فكرها الصحراء. كما أن الأصقاع التي ولَّت عنها إشعاعات الحضارة، وحَلَّ محلها فكر ظلامي تختلف عن تلك التي تلاقت فيها الحضارات، ودُوِّنت فيها الأفكار الخلاقة. فجزء كبير من التأثير يأتي من الجذور، وهو ما يحصل في أغلب البلدان.
ولأن الأرض تختلف، والمجتمعات تتباين؛ فمن الخطأ أن تُصدَّر التجارب والأفكار كما هي وتُلقَى في بيئات أخرى ويُنتَظَر أن تنبت، فالأكيد أن ما سيُجنَى هو الحِصْرِم. لكن وفي نفس الوقت، يبقى الفضاء مفتوحاً لـ «الاستفادة» من التجربة وإدراك «الآفاق» التي تُنضِّج الحركة والتفكير. وهو أمر نافع جداً، أدرَكَته كافة المدارس الدينية والفلسفية والعلمية ممن استفادت من بعضها بعضا.
أقول هذا الكلام، وأنا أروم التحدث عن تجربة جرت في دولة عربية عزيزة علينا، خاضها قاضٍ ومحامٍ ثم داعية أثبتَ تميُّزه في التفكير وتوخِّي الاعتدال منهجاً والانفتاح ضرورةً، على رغم أن التاريخ ظَلَمَه والحاضر جَفَاه. إنه الشيخ عبدالفتاح مورو نائب رئيس حركة النهضة التونسية، ونائبها في البرلمان كذلك. الرجل تحدث في غير مكان عن رؤيته وأفكاره، لكن ربما كان أكثرها وضوحاً هو في الحلقات السبع عشرة التي أسهب فيها ضمن برنامج «شاهد على العصر» الذي تبثه قناة الجزيرة.
الحقيقة، أن تلك الحلقات هي بمثابة خلاصة تجربة للرجل. هذه التجربة وإن كانت بيئتها تونس، إلاّ أنها كانت ممتدة باتجاه أوروبا وشمال إفريقيا والخليج العربي وجنوب شرق وغرب آسيا، كَوْن الرجل ينتمي إلى حركة دينية تأسست نواتها منذ الستينات، دخلت خلالها العمل السياسي كمعارضة وانتهت به كـ حاكمة ومُشرّعة بعد العام 2011. ولأنني رأيتُ في تلك الحلقات (على الأقل) مادة جيدة لأن تُقرَأ؛ فإنني أرى ضرورة الاطلاع عليها من قِبَل جيلنا الشاب والشائخ على حدّ سواء.
وقد اخترتُ تلك اللقاءات دون غيرها لاعتبارات عِدَّة:
الأول: أن عبدالفتاح مورو يمتاز بالإنصاف. فعلى رغم أنه كان ضحية لعَهْدَيْ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، إلاَّ أنه وحين يتحدث عن نظامَيْهِما يتحدث بموضوعية وإنصاف. فمَدَحَ تخصيص بورقيبة ثلث ميزانية تونس إلى التعليم، وبناءه مؤسسات دولة لم يرِثها من الاستعمار. وأشاد بالإصلاح الزراعي الذي ارتقى وتطور خلال حقبة بن علي، ولا يرى غضاضة أن يقول كل ذلك.
الثاني: أن الرجل ينتمي إلى تيار سياسي ديني كانت نواته حالة دعوية وزخم إسلامي، تحوَّل إلى اتجاه ثم حركة سياسية معارضة، وبعد العام 2011م حازت على أكثر عدد من الأصوات في أول انتخابات، ثم على ثاني أعلى نسبة تصويت لها بعد استقالة حكومة حمادي الجبالي وعلي العريض، الأمر الذي يجعله يمتلك مخزوناً كبيراً من التجارب القائمة على خوض الحوادث السياسية والثقافية.
الثالث: أن مورو رجل مثقف جداً ولا يحمل فكراً تقليدياً، بل هو مضطلع بالثقافة الغربية ومجيد للغتين أساسيتين وهما الألمانية والفرنسية، ما جعل مداركه أوسع من كثير من رجال الدِّين حتى بات يُقال في تونس أن حركة النهضة وجهها مورو (كناية عن انفتاح الرجل الذي يُقدّمها كحركة معتدلة منفتحة) وقلبها شورو (كناية عما تخفيه من تشدد يقوده الصادق شورو أحد قيادييها).
الرابع: أن الرجل، يمتلك حافظة جيدة، لا تجعله عاجزاً عن طرح الموضوعات والأفكار بصورة واضحة، بذكر أبطالها وفاعليها، ما يمنح المستمع والقارئ المزيد من الفهم لما جرى، وخصوصاً أن الكثير من الشخصيات كانت في حدِّ ذاته تاريخاً عريقاً في الفكر والنضال، كما في حالة عبدالعزيز الثعالبي أو الطاهر بن عاشور ونجله، أو فرحات حشاد الزعيم والنقابي التونسي.
الخامس: أن مورو ليس كبقية زعامات حركة النهضة، التي غادرت بلادها إلى أوروبا ما بعد ثمانينات القرن الماضي وما تلاه من سنوات، بل بقي طيلة تلك الفترة في تونس والتي امتدت لـ 23 عاماً، وهو ما يمنح المتابع القدرة على فهم الفروق السياسية والنفسية ما بين معارضة الخارج والداخل، وانعكاس حالة التشدّد والاعتدال ما بين السماطْين وتغايرها.
السادس: أن الشيخ مورو، لم يكن شخصية «مُتَونَسَة» محدودة الأثر، بل كان شخصية لها علاقات ممتدة، بدأت مع فرنسا ثم ألمانيا ثم المملكة العربية السعودية ثم ليبيا ثم مع المغرب، ما مكَّنه من أن يصبح ذا أفق واسع، وفهم للمدارس الدينية والفكرية والسياسية في العالم.
السابع: أن الرجل ناقد لشخصه وللحركة التي ينتمي إليها، ولم تمنعه الأيديولوجيا من أن يقوم بذلك، ولا أن يتخشّب على أطروحات الحركة، لذلك، كان له موقف مختلف عن الحركة فيما خصّ الغزو العراقي للكويت سنة 1990م، وكذلك لمشاريع حركة النهضة في السياسة داخل تونس، وهو ما جعل الرجل متحررا من أيّ تقديس لسياسة أو فكرة أو مشروع، لصالح النقد والانفتاح.
الثامن: أن هذا الرجل ينتمي إلى بلد عريق، وسبَّاق في التحديث. فتونس أول بلد عربي وإسلامي يُحرِّر العبيد عام 1845، وأول بلد يضع دستوراً عام 1860، وأول بلد يُكلِّف برلماناً 1861. بل كانت تأثيرات تونس قد وصلت حتى إلى تركيا «العثمانية» حين وصلها الإصلاحي خير الدِّين باشا، بعد أن عزله الصادق باي كما يقول هو، فأصبح الصدر الأعظم في تركيا. وكل ذلك أثر على الأجيال هناك ومن ضمن الشيخ عبدالفتاح مورو. (للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5068 - الجمعة 22 يوليو 2016م الموافق 17 شوال 1437هـ
علي العادة قدم كاتب العمود الاخ محمد مقال غنيا بالمعلومات ملخصة ومكثفة وشاملة ذات دلالة ومصاغة بطريقة سهلة وممتعة ..ننتظر البقية