اكتسبت مدينة الفلّوجة (تبعد 50 كيلومتراً عن بغداد)، مكانة خاصّة منذ الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، فهذه المدينة (المُحافِظة) التي يقدّر عدد نفوسها بنحو 700 ألف نسمة (مركز القضاء والنواحي المحيطة به)، كانت أولى المدن التي انطلقت منها الشرارات الأولى للتمرّد ضد الاحتلال.
وأصبحت الفلّوجة فيما بعد معقلاً للمقاومة، واكتسبت طابعاً رمزياً، وخصوصاً ما تعرّضت له من قسوة على يد القوات الأميركية المحتلّة من جهة، ومن جهة أخرى من الحكومات العراقية المتعاقبة، وخصوصاً في ربيع العام 2004، حين تعرّضت لحصار دام لعدّة شهور، حتى خريف العام المذكور، وكانت قد نزفت دماً غزيراً.
وبالتدريج أصبحت الفلّوجة ملتقىً للمجموعات المسلّحة من شتّى الأصناف، حتى وإنْ اختلفت توجهاتها، لكن العنوان الأساسي «المعلن» على أقل تقدير كان رفض الاحتلال الأميركي للعراق والتركيبات التي جاء بها، لا سيّما نظام المحاصصة الطائفية - الإثنية، وكذلك رفض النفوذ الإيراني الذي أخذ يتعاظم بكثافة.
ووجدت القوى والعناصر الإرهابية في الفلّوجة بيئة خصبة لتفقيس بيض الإرهاب، لا سيّما في ظل سياسة الإقصاء والتهميش والشعور العام بالتمييز، لذلك أصبحت مرتعاً لتنظيم «القاعدة» ومن بعده ربيبه تنظيم دولة الخلافة «داعش»، وكان للفلّوجة بعد تشكيل الصحوات العام 2008 وما بعده دوراً مهماً في طرد تنظيم «القاعدة» وإلحاق هزيمة منكرة بالإرهابيين، لكن الآمال التي علّقها أهالي الفلّوجة والمناطق الغربية والشمالية من العراق لا سيّما ذات الغالبية العربية - السنية، لم تتحقق، وخصوصاً بعدم صدور عفو عام، واستمرار وجود عشرات الآلاف من المعتقلين بموجب قانون الإرهاب والمادة الرابعة منه، وقانون المخبر السرّي، وغير ذلك من المطالب التي كانوا قد رفعوها خلال حركة الاحتجاج.
وتكمن أهمية الفلّوجة في تركيبة سكانها العشائرية العربية السنيّة، وغلبة الطابع الديني عليها لدرجة تسمى «مدينة المساجد»، فهي إضافة إلى قربها من بغداد، فإنها جزء من محافظة الأنبار الممتدة في الصحراء نحو الجنوب حتى صحراء السماوة ونحو الغرب باتجاه الأراضي السورية (أعالي الفرات) حيث الحاضرتين السوريتين: دير الزور والرقة، وبهذا المعنى فإن موقعها الجيوستراتيجي يعطيها أهمية مضاعفة.
وإذا كان تحرير الفلّوجة يمتلك دلالات مهمّة تتعلّق بالمستقبل، فذلك لأنها أولى المدن التي وقعت تحت سيطرة داعش، حيث دُبِّرَ أمرها بليل كما يُقال، ففي غفلة تامّة تقدّمت عدد من سيارات الدفع الرباعي (قادمة من عمق الصحراء) لتستولي على المدينة، ولم تحرك القوات المحلية الأمنية والعسكرية أي ساكن أو تقوم باعتراضها، وكأن الأمر يحدث في ظل نوع من التخدير أو خدعة من خدع أفلام هوليوود.
وهكذا أحكمت قوات داعش سيطرتها على المرافق الحكومية وأغلقت منافذ المدينة نحو العالم الخارجي، وأخذت المدينة أسيرة مغلوبة على أمرها، ولم يكن أمام سكانها الرافضين لمنهج داعش، إلاّ الرحيل، فبدأت هجرات متتالية شملت الغالبية الساحقة من سكانها. وبحسب تقرير للأمم المتحدة مع بدء المعارك لتحريرها، كان عدد المتبقين من السكان نحو 90 ألفا، وصل منهم كنازحين حديثا ما يقارب 68 ألفا.
مرّ حدث احتلال الفلّوجة مرور الكرام، فلم يترك أثراً يُذكر أو ردود فعل لدى الحكومة العراقية يوازي ما حصل، بل إنها تعاملت معه كأمر واقع، حتى إن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ألقى باللّوم على المدينة وأخذ يردّد إنها «رأس الأفعى»، متعكزاً على أن بعض شبابها ممّن تمَّ غسل أدمغتهم عملوا في صفوف «داعش»، ونسي أن غالبيتهم كانوا مع الصحوات ضد تنظيم «القاعدة»، مع الأخذ بالاعتبار معاناتهم من البطالة والتهميش.
الفاصل بين وقوع الفلّوجة بيد داعش ووقوع الموصل نحو 6 أشهر، فقد احتلّ داعش الفلّوجة يوم 2 يناير/ كانون الثاني العام 2014، وكان قد تمكّن من المدينة قبل ذلك، حيث تغلغل فيها بأساليب مختلفة، لا سيّما وقد وجد تربة خصبة لنشر أفكاره التكفيرية، وتجنيد بعض الشباب، وإرسال السيارات المفخخة إلى بغداد ومناطق أخرى من العراق، إضافة إلى الأحزمة الناسفة والأعمال الانتحارية.
وعلى رغم فضيحة احتلال الفلّوجة، فلم تجرِ أي مساءلات أو محاسبات تُذكر، على رغم أن مجلس النواب ألقى باللاّئمة على حكومة المالكي في أغسطس /آب 2015، لكن سيناريو احتلال الفلّوجة تكرّر بحذافيره في الموصل، حين تمكّن داعش من احتلالها في 10 يونيو/ حزيران العام 2014.
لقد تأخّرت معركة الفلّوجة عامين ونيّف، وقد يعود الأمر للأزمة السياسية الطاحنة التي تعيشها البلاد، المترافقة مع أزمته الاقتصادية؛ بسبب انخفاض أسعار النفط، إضافة إلى عدم جهوزية الجيش العراقي الذي وجد نفسه على حين غرّة مصدراً للشك والاتهام، وزاد الأمر تعقيداً التحاق قوات الحشد الشعبي به، ولكن الأهم من كل ذلك هو غياب رؤية لوحدة وطنية تمثّل معيار الحد الأدنى؛ بسبب المصالح الأنانية الضيقة وانقسام المجموعات السياسية، فمقتدى الصدر ترك البيت الشيعي في حيرة من أمره، وانفرد بالشارع نذيراً وخفيراً، والسنيّة السياسية داخل الحكم وخارجه بينها ما صنع الحداد، وتتوزع ولاءاتها بين الحفاظ على ما هو قائم وبين الرغبة في التغيير مع خوف من المجهول.
أما التحالف الكردستاني فلديه مشاكل مستديمة مع بغداد، ابتداءً بالنفط وعقوده وتصديره ومروراً بالرواتب وحصص الإقليم، وليس انتهاءً بالمناطق المتنازع عليها، لا سيّما ما بعد التحرير، وزاد الأمر تعقيداً انقسامه حديثا بين كتلتين أساسيتين هما: السليمانية (التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني - المقرّبتان من طهران وبغداد) وإربيل (الحزب الديمقراطي الكردستاني - الأقرب إلى تركيا).
لم يكن من سبيل لحكومة حيدر العبادي وطهران والتحالف الدولي، لصرف الأنظار عن الاحتجاجات الشعبية المستمرة والتي كادت تطيح بالرئاسات الثلاث، في ظلّ استمرار خطر «داعش»، سوى تصويب الأنظار إلى الأزمة الخارجية، الأمنية والعسكرية، فكان لا بدّ من إعلان المعركة باستعادة الفلّوجة وتحريرها من «داعش»، وهي معركة ناجحة بكل المعايير؛ لأن العالم كلّه وقف مع العراق، وخصوصاً إذا كان الهدف وضع حد لخطر داعش الممتد من سورية إلى مصر، ومنها إلى تونس وليبيا والمغرب العربي، وصولاً إلى أوروبا، على رغم من الانتقادات التي صاحبت معركة الفلّوجة من جانب منظمات حقوقية دولية بشأن انتهاكات الحشد الشعبي.
ومن دلالات هزيمة داعش في الفلّوجة، هو أنه مهما بلغ من قوّة وجبروت ووحشية وشراسة، إلاّ أنه لا يستطيع الاستمرار إلى ما لا نهاية على «حكم» المناطق التي احتلّها بالقوّة، لأنه ضدّ منطق الحياة وضدّ التقدّم وضدّ القيم الإنسانية، حتى وإن امتلك جميع آليات التدمير، والحكم عمران لا خراب، على حدّ تعبير عبدالرحمن بن خلدون.
إن قدراً من الوحدة الوطنية للمعركة ضد الإرهاب يمكنه استنهاض الوطنية العراقية، العابرة للطائفية والإثنية، وهو ما أخذ الحديث يكثر عنه بعد فشل نظام الزبائنية والغنائم المحاصصاتية، وكان إلغاء نظام التقاسم الوظيفي هو المطلب الأساسي لحركة الاحتجاج التي شهدتها البلاد من أقصاها إلى أقصاها. ولاستعادة هيبة الدولة لا بد من رد الاعتبار لمبدأ المساواة والمواطنة المتكافئة، وإخضاع الجميع لحكم القانون.
وأكّدت معركة الفلّوجة أن الشعب يقف مع الجيش في المعارك الوطنية، بغض النظر عن رأيه بالحكم وممارساته، وأنه يمكن أن يسترخص الغالي والنفيس من أجل الوطن والذود عن حياضه، ولعلّ هذا أحد الدروس التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في معركة تحرير الموصل القادمة، كما لاحظنا في الحرب العراقية - الإيرانية 1980 - 1988.
إن المعركة ضد الإرهاب هي معركة عالمية وإقليمية، وليست معركة عراقية خالصة، وبالتالي يمكن التوافق مع دول المحيط، ولا سيّما العربية والتعاون معها ومع دول المحيط الإقليمي أيضاً، مثلما يمكن الاستفادة من التحالف الدولي وجميع الدول التي يهمّها هزيمة الإرهاب، فالمعركة كونية وسبل مجابهتها ينبغي أن تكون بالتعاون مع الجميع لدحر الإرهاب وتجفيف منابعه.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5063 - الأحد 17 يوليو 2016م الموافق 12 شوال 1437هـ
هههههه . داعش داعش قولوا من داعش ومن صنع ومن داعش ومن وراء داعش لازم نعرف المرض علشان نصرف الدواء .