يترتب على الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي خلال عامين تبعات في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات، ومن ذلك السياسة الخارجية في العالم العربي، ولاشك أن بريطانيا تعتبر من بين الدول الكبرى وخصوصا الغربية الأكثر خبرة بالعالم العربي، ومعظم دولها، ولها إرث رهيب لاتزال مفاعيله حتى اليوم وفي المستقبل وأهمها اتفاقية سايكس بيكو التي مزقت الوطن العربي، وتناهبته كل من الدولتين الاستعماريتين الحليفتين بريطانيا وفرنسا، ثم ورثت الولايات المتحدة كثيراً من نفوذ الدولتين الاستعماريتين في البلاد العربية، وبعد فترة التنافس على النفوذ توصلت الدول الثلاث إلى تعاون تام.
ومن أهم نتائج مؤتمر 1917 للدول الاستعمارية الغربية، خلق كيان دخيل يفصل شرق الوطن العربي عن غربه، ويشكل بؤرة للحروب والتوترات، وهو ما تمخض عنه قيام الكيان الصهيوني (إسرائيل) والتي تحظى بالحماية الأميركية والرعاية الغربية أمس واليوم وغداً، وظلت بريطانيا لاعباً أساسيّاً في الساحة العربية، وذات استراتيجية واضحة، حتى بعد إخفاقاتها الكبرى، مثل فشل العدوان الثلاثي ضد مصر في 1956 والانسحاب من شرق السويس بنهاية 1970، وما تبعها من تراجع اقتصادي. وبعد انضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة في 1975 والاتحاد الأوروبي في 1995، فقد ظلت السياسة الخارجية البريطانية متميزة عن باقي دول الاتحاد في الإبقاء على علاقات التحالف الاستراتيجي عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة، بحيث اتهمت بريطانيا دائما بأنها حصان طروادة الأميركي في أوروبا. وأحد الشواهد على ذلك ما يناقش حاليا من النتائج التي توصل اليها السير تشيلكوت بشأن الحرب الأميركية البريطانية ضد العراق في 2003، كون الاتحاد الأوروبي ودوله عارض شن هذه الحرب قبل استنفاد الوسائل الأخرى، وثبتت التبعية البريطانية للولايات المتحدة، لكن المهم هو أن السياسة الخارجية البريطانية ظلت لصيقة بالسياسة الخارجية الأميركية، والتي وظفت الخبرة البريطانية والعلاقات التقليدية البريطانية مع بعض البلدان العربية لتنفيذ الاستراتيجية الغربية، وخصوصا الأميركية للإبقاء على العرب ممزقين وتابعين ومتناحرين، وتعزيز النفوذ الغربي، وخصوصا الأميركي البريطاني، بل وعودة الجيوش والقواعد الغربية لتحتل الوطن العربي، مع الإبقاء على «إسرائيل» كأقوى دول المنطقة، واعتبارها الديمقراطية الوحيدة الجديرة بالاحترام والمنتمية إلى الغرب الديمقراطي، حتى وصلنا الى ما وصلنا إليه من وضع لا يشمت فيه بنا حتى العدو.
المهم أن بريطانيا من خلال وجودها وتأثيرها في الاتحاد الأوروبي كونها إحدى أقوى دول ثلاث قائدة، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والقوة العسكرية الأوروبية الأولى في الحلف الأطلسي، حالت دون ان يكون للاتحاد الأوروبي سياسة متميزة فعلا عن السياسة الأميركية في العالم العربي، على رغم محاولات دول أعضاء في الاتحاد ليس لها ماضٍ استعماري، أو ناضلت ضد الدكتاتوريات، وتتفهم تطلعات الشعوب العربية، وقد انعكس ذلك حتى في الحضور الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي، حيث إنه ولمنطقة الخليج العربي، فلا توجد سوى سفارة محدودة الإمكانيات في الرياض، وإذا أخذنا القضية الفلسطينية مثلا فإن ممثل الاتحاد الأوروبي في الرباعية الدولية هو طوني بلير، ما غيره، شريك بوش الابن في الحرب على العراق، إضافة إلى فضائحه الأخرى.
واستنادا إلى توزيع العمل فيما بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي واستنادا إلى العلاقات التاريخية الخاصة، فقد انيطت مسئولية مجلس التعاون الخليجي ببريطانيا، وانعكس، ذلك سلبيا بشكل كبير في مواقف الاتحاد الأوروبي وخصوصاً المفوضية والمجلس الوزاري والبرلمان، تجاه قضايا الخليج الإقليمية والمحلية، وتجلى ذلك في بروكسل وجنيف وغيرهما من عواصم القرار. كما أنه وبعد عقود من الانسحاب البريطاني من الخليج بنهاية 1970 فقد عادت بريطانيا عسكريا وتدريجيا الى المنطقة، ومنها دورها البارز في القوة البحرية متعددة الجنسيات، وهذا نموذج لدور بريطاني، وإن أقل، في البلدان العربية الأخرى.
لذلك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الى ما غير رجعة، سيترتب عليه أولا تراجع بريطانيا اقتصاديا وعسكريا، وانتهاء دورها الاعاقي في الاتحاد الأوروبي، وإن بقي في حلف الناتو إلى حين. لا ننسى احتمال ألا تبقى المملكة المتحدة، متحدة حيث يحتمل انفصال بعض مكوناتها مثل اسكتلندا مثلا، وهو ما سيسمح ببروز كيانات جديدة لها نهج مختلف عن المملكة المتحدة في السياسة الأوروبية.
من الصعب التكهن تماما بنتائج الانحسار البريطاني وخروجها من الاتحاد الأوروبي، لكن من أهم نتائجه، تراجع حليف لمجلس التعاون الخليجي، وشكل حائط الصد عنه في المحافل الدولية وخصوصا في بروكسل وجنيف، وأثر على مواقف الاتحاد الأوروبي وحتى على السياسة الأميركية، التي كانت تلجأ دائما للخبرة البريطانية.
من المتوقع أن تنشغل المملكة المتحدة بالكثير من تبعات خروجها من الاتحاد الأوروبي وإعادة صياغة سياستها الخارجية في ضوء ذلك وفي ضوء تراجع دورها الدولي ولذلك فعلى حلفاء بريطانيا العرب، أن يراجعوا حساباتهم، وخصوصا في ضوء الانتقاد المتزايد لسياساتهم ومنها الاستبداد والتهميش والإقصاء والإعراض عن المطالب الشعبية والنخبوية بضرورات الإصلاح والتحول الديمقراطي ومحاربة الفساد، وارتفاع الأصوات بذلك في المحافل الدولية في نيويورك وجنيف وبروكسل وغيرها، حيث أضحت هناك قناعة دولية بأن هذه الأوضاع هي الحاضنة الطبيعية للتطرف والتكفير والإرهاب، والذي يطول البلدان الغربية ذاتها، ولهذا تشكل الحرب على الإرهاب الأولوية لدى الغرب، بما في ذلك بريطانيا بالطبع، فهل تدرك دولنا هذه المتغيرات، وتعالج أوضاعها بنفسها وتعاونها فيما بينها؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5061 - الجمعة 15 يوليو 2016م الموافق 10 شوال 1437هـ
نسأل الله أن يرينا فيهم كما أذاقوا الكثير من شعوب العالم من ويلات أن يرينا فيهم شدة نقمته في الدنيا قبل الآخرة وفي ذلك يفرح المؤمنون بتحقق وعد الله
نعم تدرك تماما ما تعنيه
بس إنت تطمَّنْ ولا تحاتي شي