العدد 5061 - الجمعة 15 يوليو 2016م الموافق 10 شوال 1437هـ

مفاهيم وبواعث... الممثل والسيناريو ممارسةً ودرايةً... ولا رؤية قطعية

«الوجه والظل في التمثيل السينمائي» لأمين صالح...

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

مرَّت 14 سنة منذ أن أصدر القاصُّ والروائي والسيناريست البحريني أمين صالح كتابه «الوجه والظل في التمثيل السينمائي» في العام 2002، عن وزارة الإعلام، وقتها، بطبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ويقرب من 500 صفحة إلا قليلاً من الحجم الكبير؛ ومع ذلك يظل واحداً من الإضافات التي مازال أثرها فاعلاً ومُثرياً للمكتبة العربية، وخصوصاً أنه يحتوي على أفكار ورؤى متعددة في اتجاهاتها ومدارسها؛ ما يجعل مادة أفكاره غير قطعية أو نهائية.

الكتاب باحتوائه على مقاربات عديدة وتصورات حول مفهوم التمثيل، لا ينفي إمكانات تعددها تبعاً للأطراف التي تتناولها، سواء من حيث الخبرة/ الممارسة، أو الدراية.

ستقتصر مراجعة الكتاب على مفهومين يتعلقان بالتمثيل من حيث تعريفه، ولماذا التمثيل أساساً، وقوفاً عند الممثل والسيناريو، بسبب أن الكتاب أنجزت حوله بعض المراجعات التي ربما تناولت جلَّ محتواه، في مجموع تلك المراجعات، مع ملاحظة أن العناصر الثلاثة لم ينلها الاهتمام الكافي باعتبارها العناصر الأساس في عملية التمثيل برمَّتها.

يضعنا الكتاب أمام خريطة مساره ومعالجاته، بذلك الاشتغال الذي يجمع أطراف عملية التمثيل وعناصرها، والدور الذي تلعبه تلك العناصر للوصول بالعمل السينمائي إلى المستويات المُتوخاة.

لا يترك صالح أياً من الإصدارات التي أحدثت أثراً وإضافات إلى معرفته إلا وقدَّمها إلى القارئ العربي - في هذا الباب تحديداً - باقتناع منه أنها غائبة أو شبه غائبة في المكتبة العربية، وتسدُّ فراغاً؛ سواء كان كبيراً أو صغيراً ولكنه يظل فراغاً.

تتشكَّل مادة الكتاب من انتقاء عدد من المقابلات والشهادات والمقالات والدراسات في مجال التمثيل السينمائي «حيث يتحدَّث الممثل أو السينمائي، أو يؤوِّل، أو يشرح وجهة نظره الخاصة في أحد أو أوجه التمثيل أو مظاهره».

يُزيل أمين صالح، في مفتتح كتابه، توقّع أن يكون العمل مشغولاً أو منشغلاً بالدراسات النظرية - من وجهة نظر نقدية - بقدر ما هو كشف عن الجوانب والاتجاهات والأساليب والعلاقات بالعناصر الفنية الأخرى التي بها يصل العمل السينمائي إلى شكله الذي يبدو نهائياً.

الدور الذي تجد نفسك طرفاً فيه

تظل البحوث والدراسات في هذا الباب غير متوافرة، وخصوصاً أنها من المفترض أن تمس جوانب فنية، في جانب منها غير ظاهر، أو لا يبدو المتابع لذلك الفن على دراية بتفاصيلها وأثرها على العمل، وتنسحب تلك الندرة على المصادر الأجنبية كما هو على المصادر العربية، وإن بدت في الأخيرة

تعريف مفهوم التمثيل - الذي يبدو ألاَّ تعريف متفقاً عليه بين مجموعة من الذين هم في عمق الممارسة؛ وحتى بين الذين يتحدد تعاطيهم معه في حدود المقاربات والنقد، لم ولا يحول دون الدخول في وتناول تعريفات هي في كثير منها في حدود التصوُّر من وحي الخبرة والممارسة، وأحياناً يقدِّم ما يشبه التوصيف، دون الالتزام بتقعيد صارم له.

قد يكون من بين التعريفات التي تنأى عن التوصيف، وفي حدود التصوُّر، أن التمثيل قيام بالأدوار التي لم تتح لك فرصة القيام بها في الحياة، لكنك ستجد نفسك يوماً أحد أطرافها. هو أيضاً ألَّا تكون أنتَ وقتها تشخيصاً لأدوار الآخرين، ومن هنا تتبادل الأدوار التي ستتعلم منها كثيراً. هكذا تقترح هذه المراجعة نظراً آخر له.

بالنسبة إلى ناستاسيا كينسكي (ممثلة ألمانية من مواليد 24 يناير/ كانون الثاني 1961)، فهي تتناوله من وحي الممارسة بالقول: «لا أفهم التمثيل إلا حين أمارسه... وأحياناً لا افهمه حتى عندما أمارسه». وفي الممارسة ذهاب إلى الدراية في أعمق صورها وتجسيداتها.

براندو: محْض احتيال

فيما ترى إزابيل أوبير (ممثلة فرنسية وُلدت في 16 مارس/ آذار 1953. حائزة على عدد من الجوائز من مهرجانات سينمائية عالمية من بينها برلين وموسكو وفينيسيا. كما حصلت على جائزة سيزر العام 1996 كأفضل ممثلة عن دورها في فيلم «المراسم»)، أن «التمثيل طريقة لتجسيد جنوننا»، ويذهب بول نيومان (ممثل ومخرج أميركي ولد في 26 يناير 1925، وتوفي في 26 سبتمبر/ أيلول 2008. حاصل على جائزة الأوسكار العام 1986 كأفضل ممثل عن دوره في فيلم «لون المال»)، إلى أنه «حين تمثِّل، تكون مكشوفاً... إنه أشبه بالتعرِّي». هو الكذب المقنع بالنسبة إلى لورنس أوليفييه في «اعترافات ممثل: سيرة ذاتية»، و «محْض احتيال» بالنسبة إلى مارلون براندو. هل هو كذلك؟ فيه شيء من ذلك. القفز على ما تعتقده غير موجود فتُوجده وتجسِّده وكأنه قائم، هو بحد ذاته احتيال «بنَّاء». فيه سدٌّ لنقص في نماذج بشرية تبدو غير مرئية، ومتوارية هناك؛ لكنها حتماً في مكان ما من هذا العالم.

ضمن الترتيب من حيث أسبقية «ماهية التمثيل» وصولاً إلى «لماذا»، لا تتجاوز الإجابات مساحات تصورية في كثير منها، مستندة إلى الخبرة التي تتحول إلى دراية في صورة أو أخرى. كلاوس كينسكي (ممثل ألماني ولد في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1926، وتوفي في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 1991. ظهر في أكثر من 130 فيلماً) يذهب إلى «أن تكون ممثلاً هو ضرب من الانتحار. كنت دائماً أحاول أن أفهم لماذا أنا ممثل. (...) دائماً أقول، إن روح من يُسمَّى الممثل هي مجنونة ومريضة». عل كينسكي هنا يذهب إلى تطهير الروح بذلك الانتحار، من خلال ولادة جديدة ستتجسد عن ذلك التشخيص (التمثيل)، ويبدو أن الخلاص من الجنون والمرض الذي تناوله، لا يبتعد كثيراً عن الخلاص منه بنهاية تلك الأدوار، لتعود الحالة ثانية، وبشكل مستمر.

السينما الصامتة... العودة إلى البدائية

يتناول صالح في كتابة بدايات وتحولات السينما، مذ كانت صامتة واستمرارها على تلك الوضعية لثلاثين عاماً، منذ اختراعها في أواخر القرن التاسع عشر، واعتماد لغة الإيماءة التي حلَّت محل الصوت (تحوَّلت إلى لغة متعارف عليها وقتها)، وفي ذلك عودة إلى ما كان يحدث في المجتمعات البدائية، ولكن ضمن فضاء التشخيص الذي يريد من خلال الحكاية والتمثيل إيصال قيمة ما. كما يتناول هذا الفصل شعور كثيرين ممن امتهنوا التمثيل، «بالخزي والخجل اعتقاداً منهم بأن العمل في السينما سيسيء إلى سمعتهم؛ إذ كانوا يعتبرون الأداء السينمائي أقل مرتبة وقيمة من الأداء المسرحي». ولذلك لم يُنظر إلى التمثيل السينمائي بوصفه فناً إلا بعد سنوات طويلة. في تلك الفترة كان «الممثل أشبه بالدمية»، نقف على ذلك في حديث الممثل المسرحي الإنجليزي شارلز غراهام عن التمثيل في الأفلام العام 1912، متناولاً تجربته في السينما الأميركية بالقول، إنه شارك في فيلم دون أن يعرف قصته أو حبْكته أو طبيعة دوره، أو حتى عنوان الفيلم». وصولاً إلى العام 1929، وهو العام الذي بدأت فيه السينما الناطقة مرحلتها، بعد اختراع معدَّات جديدة لتسجيل الصوت، وأتاح ذلك الاختراع للممثل الابتعاد عن البانتومايم والإيماءات المفرطة؛ إلا أن شبح الأداء المسرحي ظل يطارد الممثل، كاشفاً أداءه والعديد من الأخطاء.

ويشير صالح إلى أن انتقال السينما إلى مرحلة الصوت «أحدث ارتباكاً وخلخلة في الوسط التمثيلي، فقد تم الاستغناء عن عدد من ممثلي وممثلات السينما الصامتة بسبب ضعف إمكاناتهم وقدراتهم في الإلقاء الصوتي، وافتقارهم إلى التجربة المسرحية».

«سائق التاكسي» مختلف عن السيناريو

يلعب السيناريو دوراً كبير في تحقق التشخيص، ويمر بأطوار متعددة للوصول إلى صيغته النهائية، ويشترك في تعدد الصيغ والتغييرات كل من المخرج والممثلين والمصور والمونتير والمنتج، كما يشير صالح. تعامل الأطراف تلك له لمساته، إلا أن المخرج والممثل لهما النصيب الأكبر في خروج العمل في الشكل المُراد منه. الممثل خصوصاً - بالدربة - لا يمكن له أن ينسجم مع الشخصية المُراد تجسيدها إذا وجد في جانب من السيناريو ما يمثل عائقاً أو عقبة في تقديم تلك الشخصية، فيأتي تدخله أحياناً إنقاذاً للعمل من حيث لا تشعر أطراف العملية برمَّتها. عدم اقتناع الممثل ولو بجزئية بسيطة في السيناريو قد يقلب العمل رأساً على عقب. هل ستمثِّله تلك الجزئية؟ تمثِّل الشخصية؟ روبرت دي نيرو له رأي غير تقليدي في هذا الشأن «الكاتب الجيد هو الذي يخلق للممثل بنيَة مناسبة ليعمل من خلالها. في الموقع يحدث أن تخطر لك فكرة أن تنفِّذ مشهداً ما بطريقتك الخاصة»، والبنْية هنا فتح فضاءات للممثل نفسه كي يتحرَّك في أداء جانب من الدور وإن لم يحدِّده السيناريو، من دون أن يشوِّه السيناريو في الوقت نفسه.

وعن تجربته في فيلم «سائق التاكسي»، يقول دي نيرو: «عندما تحرَّكت نحو هارفي كايتل وأطلقت عليه النار، فإنني لم أكن أعلم ما إذا كانت طريقتي مطابقة لما كان مكتوباً في السيناريو. لقد فعلت ما رأيته سليماً ضمن طبيعة الحالة. أستطيع أن أقول بأن عشرين أو خمسين في المئة من الفيلم هو مختلف عن السيناريو. في أحوال كثيرة، الكاتب لا يعرف عن الشخصية أكثر مما يعرفه الممثل».

ويشير صالح إلى أن تدخلات الممثل في السيناريو تكون مرفوضة حين يسعى الممثل إلى توسيع حضوره على حساب الشخصيات الأخرى والعمل ككل، ويضعنا أمام حال متناقضة من تلك المطالب، بارزاً بعض مواقف حائزة الأوسكار ميريل ستريب، التي طالبت باختزال مشاهدها من فيلم (Ironweed) وتقوم فيه ستريب إلى جانب جاك نيكولسون بدور متشردة، وعن ذلك قال مخرج الفيلم هيكتور بابينكو: «هذا شيء نادر الحدوث. لقد طلبت مني اختزال مشاهدها وتقليل دورها، وكانت مصرَّة، على رغم معارضتي، تقليل الزمن السينمائي لحضورها من أجل جعل شخصيتها تبدو أكثر غموضاً (...)».

في تفكير الجمهور... المفاجأة

يأخذنا هذا الجانب من التناول في الكتاب إلى واحد من أهم الممثلين في القرن الماضي والذي نشهده، كلينت إيستوود، وهو يتحدث عن فيلم «حفنة من الدولارات»؛ إذ يقدِّم هنا توصيفاً دقيقاً لدرجات الأفلام، فيما يتعلق بالسيناريو، ومدى تطابقه مع القيمة التي يُراد إيصالها إلى المشاهد. يقول إيستوود: «كان سيناريو الفيلم شديد الإيضاح. وكان رأيي أن تكون شخصيتي مكتنفة بمزيد من الغموض، فأخذت أردِّد على مسامع المخرج سرجيوليوني ما معناه، أنت في أفلام الدرجة الأولى، تدع الجمهور يفكِّر معك، أما في أفلام الدرجة الثانية، فأنت تشرح له كل شيء. كانت تلك هي طريقتي في توصيل فكرتي إلى المخرج. كان هناك، مثلاً، مشهد يقرر فيه البطل أن ينقذ امرأة وطفلتها، فتسأله: لماذا تفعل ذلك؟... في السيناريو الأصلي، يستمر البطل طويلاً في سرْد قصته... إنه يتحدث عن أمه، وكل الحبكات الجانبية تخرج إليك وكأنها تقفز من قبَّعة ساحر، وقد رأيت أن ذلك كله غير جوهري، فأعدت كتابة المشهد قبل يوم من تصويره، ليصبح هكذا... تسأل المرأة: لماذا تفعل ذلك؟، فيجيب: لأنني صادفت ذات مرة امرأة مثلك، ولم يكن هناك من يمدُّ لها يد العون».

للمخرج الإيراني الذي رحل عنا قبل أيام، حضور في هذا الفصل من كتاب صالح، مورداً بعض ما يعتبره إجراء يتحدَّد في المفاجأة. المفاجأة تعمل على إرباك وتهيئة الممثل في الوقت نفسه. إرباكه من حيث ما يتولّد عن ذلك من صدمة - أو ما هو قريب منها - وتهيئة من حيث اكتشاف الممثل للطاقات الكامنة فيه، وقدرته على التواؤم مع حالة هبطت عليه دون سابق إنذار. مشيراً إلى أن كياروستامي، «لا يطلع ممثليه على السيناريو المكتوب في 15 صفحة أحياناً، وبشكل نهائي، والذي يعتبره محطة انطلاق فحسب. هو يريد من ذلك المحافظة على عنصر المفاجأة وعفوية الأداء».

كتاب فيه من المتعة والعمق الكثير. يأخذ كثيرين إلى ما بعد الكواليس في عالم الفن السابع. يضعه أمام مفاهيم تظل غائبة عنه في حمَّى متعةِ أن يكون في خلوته مع فيلم انتخبه ويبحث فيه عن المفاجأة/ المفاجآت أيضاً. والمتعة هي لبُّ المسألة.

أمين صالح
أمين صالح
كلينت إيستوود في «حفنة من الدولارات»
كلينت إيستوود في «حفنة من الدولارات»
روبرت دينيرو في «سائق التاكسي»
روبرت دينيرو في «سائق التاكسي»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً