لم يكن التحدّي الأمنيّ، ولاسيما في مجال مقاومة الضربات الإرهابية، بالأمر الهيّن خلال شهر رمضان الماضي في تونس؛ فقد دأبت الجماعات الإرهابية منذ 2013 على تنفيذ عمليّات قتل وتفجير خلال شهر رمضان؛ حيث يرتفع «الوازع الدينيّ» لدى هذه الجماعات بشكل كبير في شهر الصيام الذي يقترن غالباً بتطور نسق العمليّات الإرهابيّة التي تستهدف بالخصوص عناصر من الجيش الوطنيّ التونسيّ أو قوات الأمن الداخليّ. وقد ذهب ضحيّة هذه العمليات عشرات الأبرياء من الجنود والأمنيين، وبعض المواطنين فضلاً عن شخصيّة سياسية بارزة وكذلك بعض الأجانب من السياح.
ففي رمضان صيف 2013 عاش الصائمون في تونس على وقع اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو/ تموز. وشهد رمضان 2014 أسوأ اعتداء على الجيش التونسي عقب مقتل 15 جندياً في جبال الشعانبي غرب البلاد. وفي 26 يونيو/ حزيران 2015 شهدت تونس اعتداءً على سياح في فندق بضواحي مدينة سوسة الساحليّة وسط شرق البلاد ما أوقع 38 قتيلاً.
غير أنّ الجهات الأمنية هذه السنة كانت على غايةٍ من الجاهزيّة؛ فقد رفعت تونس حالة التأهّب الأمنيّ مع حلول شهر رمضان تحسّباً لهجمات قد تنفّذها عناصر إرهابية تعتقد أنّ شهر رمضان هو الوقت المناسب لـ»الجهاد»، كما قامت السلطات التونسيّة بتعزيز الإجراءات الأمنيّة على الشواطئ والمنشآت السياحيّة تفادياً لأيّ تحرّك إرهابيّ قد يعمّق أزمة القطاع، خاصّةً أنّ انطلاق الموسم السياحيّ هذا العام قد تزامن مع حلول شهر رمضان، لذلك وضعت تونس خطّة أمنيّة خاصّة بشهر رمضان، تمّ بموجبها تشكيل لجنة وقائية ضدّ الإرهاب لزيادة الجهود طيلة الشهر.
وإذْ تَتَوَفَّقُ تونس في الحيلولة دون وقوع أيّ عمل إرهابيّ خلال شهر رمضان المعظّم للعام 1437 للهجرة/ 2016م، فبِفضل ما تحلّت به قوات الأمن والجيش الوطنيّين من يقظة شاملة، وتأهّب واستنفار متواصلين، إلى جانب تفعيل العمليّات الاستباقيّة والعمل الاستعلاماتيّ والإستخباراتيّ في التصدّي لكل خطر إرهابيّ محتمل، ما أتاح تعقّب عشرات الخلايا الإرهابيّة وتفكيكها. وقد حقّقت المؤسّستان الأمنيّة والعسكريّة نجاحات أمنيّة باهرة سنة 2015، من خلال ضرب جلّ القيادات الإرهابيّة في الصميم، والقضاء على العقول المدبّرة من ذلك عناصر من «كتيبة عقبة بن نافع» التابعة لتنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلاميّ، والتي انتهت بمقتل 9 عناصر مسلحة من بينها القائد الجهادي المعروف باسم «لقمان أبو صخر» أمير منطقة الجنوب في تنظيم «القاعدة».
دون أن ننسى طبعاً ردّة الفعل الوطنيّة والبطوليّة في شهر مارس/ آذار 2016 في مدينة بنقردان الجنوبيّة والحدوديّة مع ليبيا حين حاول عناصر من تنظيم «داعش» افتكاك المدينة واتخاذها قاعدةً لأعمالهم الإرهابيّة، لكن قوّات الجيش والأمن الوطنيّين والمواطنين قدّموا درساً في البطولة والدفاع عن كلّ شبرٍ من الوطن، ولقّنوا هؤلاء الدواعش درساً في حرب الشوارع.
إضافةً إلى ذلك تمّ ضرب جلّ قيادات المجموعات الإرهابية المتحصّنة في الجبال، وقطع الإمدادات اللوجستية عنها، وتراجعت الحاضنة الاجتماعية بشكلٍ تامّ بفضل تضافر جهود المواطنين، وقوّات الأمن في عمليّات التبليغ عن العناصر والتحرّكات المشبوهة، وهو ما يؤكد عودة الثقة بين المواطنين والمؤسسة الأمنيّة، واستعدادهم للمساهمة في الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب. وخير دليلٍ على ذلك العمليّة الأمنيّة النوعيّة التي حصلت في منطقة المنيهلة من محافظة أريانة قبل شهر رمضان وأثناءه؛ حيث نجح العمل الاستخبارتي في القضاء على عنصرين إرهابيين خطيرين، والقبض على 37 عنصراً متورّطين في خلايا إرهابية موزّعة بمناطق مختلفة بالبلاد، كانت تنوي تنفيذ ضربات إرهابيّة في شهر رمضان. كما أنّ استرجاع الجوامع والمساجد التي كانت خارجةً عن السيطرة، ساعد أيضاً في التقليص بنسبة كبيرة لعمليّات الاستقطاب خاصّة في صفوف الشباب. كلّ هذه الجهود ساهمت في عدم تسجيل أيّة عمليّة إرهابيّة خلال شهر الصيام.
وعلى رغم ما حقّقته تونس من نجاحات أمنيّة خلال الأشهر الأخيرة وتحديداً منذ عمليّة بنقردان البطولية، فإنّ مهمّة المؤسّستين العسكرية والأمنية لن تكون سهلةً، في ظلّ استمرار فتح الحدود مع ليبيا، وتضييق الجيش الليبيّ الخناق على مقاتلي «الدولة الإسلاميّة»؛ حيث تصبح تونس ملاذاً لهم وهدفاً.
ولعلّ هذه النجاحات الأمنيّة تحمّل الطبقة السياسية في تونس مسئولية أكبر، هذه الطبقة التي تعكف حالياً على تشكيل حكومة وحدة وطنيّة تنخرط فيها مختلف التيّارات السياسيّة في البلاد، والمكوّنات الكبرى للمجتمع المدنيّ، لا سيما اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة، تدرك جيداً حجم التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجه البلاد، خاصةً بعد فشل الحكومة الحالية بقيادة حزب «نداء تونس» ذي الغالبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
إنّ دقّة المرحلة أمنياً، وخطورتها خاصّةً على الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتدهور لا يحتمل مزيداً من تأخير الإصلاحات الجذرية في تونس، حيث من المفترض أن تكون الطبقة السياسية الحالية قد تجاوزت مرحلة المراهقة السياسية، وتركت اختلافاتها الحزبية والإيديولوجية جانباً، لِتنطلقَ في عملية بناء عتيد لدولة عصرية مدنية؛ ذلك أنّ الثورة السلمية التي عرفتها تونس في 2011 لا تزال تحظى باحترام الدول الغربية، وتقدير الهيئات والمنظمات العالمية، وكذلك الكثير من الدول العربية القادرة على الاستثمار في تونس، خاصّةً وقد عرف العالم بأسره أنّ الثورة التونسية غير قابلة للتصدير، وأنها نموذج سلميّ للتحوّل الديمقراطيّ.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5057 - الإثنين 11 يوليو 2016م الموافق 06 شوال 1437هـ
تونس تتغلّب على التحدِّيات الإرهابيّة في رمضان: الحمد لله
نرجو مزيدا من الأمن والاستقرار لتونس
أحسنت و أبدعت أستاذ سليم