العدد 5056 - الأحد 10 يوليو 2016م الموافق 05 شوال 1437هـ

الناقد كولين عن كياروستامي: صانع مُعجزات بزيِّ ساحر

رحيل صاحب «طعم الكرز» عن 76 عاماً...

عباس كياروستامي
عباس كياروستامي

سيتذكَّر كبار مخرجي السينما في العالم، كما سيتذكَّر كبار النقَّاد السينمائيين، الإضافة الكبيرة والمُهمَّة التي حقَّقها المخرج الإيراني العالمي عباس كياروستامي، قبل أن يتذكَّر ذلك مشاهدو أفلامه. يكفي الوقوف عند ما كتبه الناقد السينمائي في صحيفة «التلغراف» روبي كولين، واصفاً إياه بأنه كان «صانع معجزات بزيِّ ساحر». بدأ كياروستامي فناناً تشكيلياً، وذلك هو تخصُّصه الأوَّل، وجمع فنوناً واهتمامات شتى، فهو - إضافة إلى ذلك - شاعر ومصوِّر ومصمِّم جرافيك، وعرفه العالم بعد ذلك مخرجاً سينمائياً.

صاحب «طعم الكرز»، الذي توَّجه بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي العام 1997، رحل عن 76 عاماً، في العاصمة الفرنسية (باريس)، بعد معاناة مع سرطان الجهاز الهضمي، مخلِّفاً وراءه عشرات الأفلام، معظمها ظلَّ علامة فارقة في صناعة السينما، محققاً مكانة كبيرة في تاريخ تيار الموجة الإيرانية الجديدة التي بدأت نهاية ستينات القرن الماضي، جنباً إلى جنب مع مخرجين أمثال: برويز كيمياوي، فروغ فرخزاد، سُهراب شهيد ثالث، وبهرام بيضائي.

ظلَّ كثير من موضوعات أفلامه غاية في الحساسية والغرابة في بعض الأحيان، لكن معالجته لها - مستفيداً من تعدُّد اهتماماته - قدَّمه إلى العالم باعتباره واحداً من «السَّحَرَة» النادرين في العالم. يكفي الوقوف على فيلمه «الحياة تستمر»، والذي يلتقط فيه قصة شاب يحاول تركيب هوائي تلفزيوني كي يتمكَّن من مشاهدة إحدى مباريات كأس العالم، وفي كارثة وفوضى زلزال مدمِّر. وفي فيلمه «نسخة طبق الأصل»، تتجلَّى رؤيته السينمائية من خلال سيارة ترصد شجرة عارية كونها النسخة الأصليَّة كما هو الحال في الفلسفات الشرقية القديمة.

كوراساوا: مخرج استثنائي

يمكن الوقوف على رؤيته الفنية التي تتعلَّق بتفاصيل تعاطيه مع العمل الذي يشتغل عليه، تلك التي سجَّلها في حوارات مُتفرقة أجرتها معه كبريات الصحف العالمية، في بداياته المبكِّرة نوعاً ما، وتحديداً العام 1988، حين أشار إلى أنه لم تتوافر لديه قط سيناريوهات كاملة لأفلامه «كنت إزاء خط عام وشخصية رئيسة قابعة في رأسي، ولا أبدأ التصوير إلاَّ حين أجد الشخصية مُطابقة في الواقع. أنا أقترب من شخصيات أفلامي وأسافر من خلالها، ولا أجعلها تتحرّك من خلالي».

زملاؤه من كبار المخرجين في العالم، أدلوا بشهادات يوم كان في ذروة نشاطه، ووجدوا فيه أيقونة، على السينما العالمية أن تضعها في الاعتبار، ذلك القادم من منطقة لا يمكن التعويل على المدهش فيما يمكن أن تقدمه للسينما، في ظل الهيمنة الأميركية، ونوعاً ما الأوروبية، على فضاء الفن السابع. من بين أولئك المخرج العالمي مارتن سكورسيزي، الذي قال عنه: «يُمثّل كياروستامي أعلى مراحل الفنية في تاريخ السينما»، بينما يعتقد المخرج العالمي الياباني أكيرا كوراساوا، بأنه «مخرج استثنائي. الكلمات وحدها لا تستطيع أن تصف مشاعري نحوه. أقترح فقط أن تُشاهد أفلامه، وقتها ستُدرك ما أعنيه».

لنختم هذا التقديم بتغريدة على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)، كانت بمثابة نعْيٍ من طرف مجلة «مسرح الأفلام»، التي تصدر في نيويورك، جاء فيها «قد يكون العالم خسر أعظم مخرجيه».

تلك مُقدِّمة بعيدة عن التقرير الذي كتبه كل من: أندرو بولفر وسعيد كمالي دهقان، في صحيفة «الغارديان» يوم (الاثنين 4 يوليو/ تموز 2016)، تخلَّله تعريف من جانب المحرر الثقافي في «الوسط»، لبعض الأفلام التي أخرجها كياروستامي، وشكَّلت علامة فارقة في فضاء الفن السابع.

الصوفيُّ الحديث

تُوفي المخرج الإيراني عباس كياروستامي، الحائز على العديد من الجوائز، من بينها جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه «طعم الكرز» العام 1997، عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً.

وبحسب ما ذكرت وكالة «إسنا» الإيرانية شبه الرسمية يوم الإثنين (4 يوليو/ تموز 2016) فإن «عباس كياروستامي، كان قد سافر إلى فرنسا لتلقِّي العلاج؛ حيث توفي هناك». وأضافت أن «بيت إيران للسينما» أكَّدت التقرير. وشُخِّصت حالة كياروستامي بإصابته بسرطان الجهاز الهضمي في مارس/ آذار 2016، وخضع لسلسلة من العمليات، بما في ذلك تلك التي أجريت في باريس الشهر الماضي (يونيو/ حزيران).

وفي حديثه لصحيفة «الغارديان» من طهران، قال الحائز على جائزة الأوسكار المخرج الإيراني أصغر فرهادي، الذي كان من المُقرَّر أن يسافر إلى باريس لزيارة صديقه في وقت لاحق إنه «حزين جداً، وفي صدمة كلية».

وقال فرهادي، إن كياروستامي «ليس مجرَّد صانع أفلام»، مُتابعاً «كان الصُّوفي الحديث؛ سواء في السينما أو في حياته الخاصة، وكان لنجاح كياروستامي دور في تمكين أجيال عديدة من صانعي الأفلام الإيرانية»، مشيراً إلى أنه «بالتأكيد عبَّد الطرق للآخرين، وأثَّر على قدْر كبير من الناس. وبرحيله لم يفقد عالم السينما فقط رجلاً عظيماً؛ بل فقدَ العالم كله شخصاً رائعاً بحق».

في العقدين الماضيين كان يعمل لمؤسسة «Kanun» (مركز التنمية الفكرية للأطفال والشباب)، وأنجز في بدايات التحاقه أعمالاً كانت على صلة بالإعلان للتلفزيون الإيراني، ليُنجز الأفلام بشكل مستمر، بما في ذلك عمله الأول «التقرير»، في العام 1977.

الرقابة... الشجرة المُتجذِّرة

وتمكَّن كياروستامي من التغلُّب على المرحلة الانتقالية التي عرفتها بلاده فترة قيام الخميني بثورته، وخلافاً للعديد من أقرانه في صناعة السينما، قرَّر البقاء في إيران بعد الثورة، مُشبّهاً نفسه بـ «شجرة متجذِّرة في الأرض». «(حينما) تأخُذ شجرة مثمرة من مكانها وتزرعها في مكانٍ آخر فهي ببساطة لن تُثمر. لو كنتُ قد غادرت وطني، فسأكون الشجرة نفسها». واستطاع بإمكاناته إعادة صوغ الأفلام التي أنجزها في محاولة لاستيعاب المطالب والضرورات بسبب حزمة جديدة من الرقابة فرضها الواقع الجديد.

كان على كياروستامي أيضاً حين كان في «Kanun» أن يشرع في إنجاز ما أصبح يعرف باسم ثلاثية كوكر (نسبة إلى الزلزال الذي وقع في العام 1990 في مدينة كوكر شمال إيران، وراح ضحيته 50 ألف شخص)، وهي الأفلام الثلاثة التي تثبّت له سمعة دولية كمخرج، من حيث احتواء أسلوبه على حساسية كبيرة وصرامة فكرية. الفيلم الأول، «أين يقع بيت صديقي»؛ حيث انتهى منه في العام 1987، ويعالج قصة طفل يبحث عن منزل صديقه الذي يُقيم في القرية المُجاورة لكي يُعيد له دفاتره. الحكاية تبدو بسيطة؛ إلا أنها تتناول المسئوليات الشخصية للإنسان والضمير وكذلك البطولات والرمزية. الفيلم فاز بأول جائزة بحصوله على برونزية ليوبارد في مهرجان لوكارنو.

ليأتي بعد ذلك الجزء الثاني من الثلاثية فيلم «وتستمر الحياة»، والذي انتهى منه في العام 1992، وشُهِد له بمزج الخيالي بالوثائقي، واعتُمد ضمن مسيرته الفارقة في بحثه عن حكايات البشر العاديين الذي يتواجدون في ظروف لا يد لهم فيها. وهذه المرة يلتقط قصة بعد الزلزال الذي ضرب إيران، ويروى سفر أب وابنه من طهران إلى كوكر بعد الزلزال بحثاً عن طفلين خوفاً على حياتهما. وفى أثناء مسيرهما يريان الناس مستمرِّين في حياتهم بين الدمار؛ على رغم المأساة التي مرُّوا بها.

زلزال كوكر... الامتنان للحياة

وعن ذلك قال كياروستامي: «قصدْت كوكر بعد ثلاثة أيام من الزلزال. 50 ألف شخص فارقوا الحياة تحت الأنقاض، كنتُ حزيناً، ولكن ما لفت نظري، هو قدرة الناس على مواصلة حياتهم. حدث الزلزال في الخامسة صباحاً، وأي شخص من أولئك الأحياء كان يُمكن أن يكون نائماً ويموت أيضاً. كان هناك امتنان عند كل منهم لبقائه حياً».

كرَّس الفيلم المذكور حضوره على المستوى العالمي بحيث توالت شهادات كبار السينمائيين والنقاد حول تجربته وأهميته ضمن تيار الموجة الإيرانية الجديدة، التي كان لها امتداد بالموجة نفسها في عديد من دول العالم. وحين شاهد المخرج الفرنسي السويسري الكبير جان لوك غودار الفيلم قال عنه: «السينما تبدأ عند دي دبليو غريفيث وتنتهي عند عباس كياروستامي».

يُشار إلى أن دي دبليو غريفيث، مُخرج ومُنتج سينمائي أميركي. طوَّر بين عامي 1908 و 1912، الأهداف الأساسية التي ساهمت في تحويل صناعة الأفلام إلى فن روائي محبّب. أشهر أفلامه، مشهديته التاريخية «مولد أمَّة» (1915) وتناول فيه الحرب الأهلية وبروز «الكوكلوكس كلان»، و «التعصُّب» (1916) إضافة إلى عدد من الأفلام الصامتة. في العام 1994، قدَّم كياروستامي فيلمه «عبر أشجار الزيتون»؛ حيث الاتِّكاء على الخيالي في الحياة، من دون أن يتجاوز الخيالُ تطابقَه مع الواقعي من تلك الحياة، وكان بمثابة دفعة جديدة له في مسيرته الفنية. تتناول القصة، وفي أثناء تصوير أحد الأفلام السينمائية، يحب بطل الفيلم، الشاب البسيط الذي يعمل بنّاء، شابة جميلة هي بطلة العمل معه، يقومان بدوري شاب وفتاة يتفقان على الزواج. يتحوّل التمثيل إلى واقع فيما بعد حين يتمنَّى الشاب الزواج منها، غير أنها ترفض هي وعائلتها، ويظل يلحُّ عليها، ويساعده مخرج الفيلم في ذلك.

سكورسيزي: أصالة مُبْهرة

ومع ذلك، كان كياروستامي تحت وطأة مناخ الرقابة العدائي؛ ما يعني أنه غادر بالفعل وظيفته في «Kanun» بعد وقت قصير من الانتهاء من فيلم آخر «Homework»، في العام 1989، لينجز بعدها فيلم «كلوز أب» (عن قرب)، بتلك الرشاقة الوثائقية الممزوجة بالخيال التي بدأ العالم يتعرَّف عليها انطلاقاً من العام 1990، ويحكي الفيلم قصة رجل إيراني عاشق للسينما يقوم باستغلال شبَهَه الكبير بالمخرج الإيراني محسن مخلمباف، استغفالاً لإحدى الأسر الإيرانية التي تحتفي به أيما احتفاء.

وعن الفيلم المذكور قال سكورسيزي: «(...) شاهدت (كلوز أب) للمرة الأولى بعد أن ألحَّ أصدقائي. عند نهايته، وجدْتُني أمام واحد من أعظم المشاهد وأقربها إليّ. خلق لديّ شعور لا يمكن وصفه، على المستوى الإنساني كان هناك شعور بالصفاء النفسي (...)، وعلى المستوى السينمائي كانت التجربة مُختلفة عن أي شيء آخر كنت قد شاهدته. أصالة مُبهرة، صادقة إلى درجة الدهشة».

في الوقت نفسه، كتب وأنتج كياروستامي أفلاماً لمخرجين آخرين، وأبرزها «البالون الأبيض»، في العام 1995 للمخرج جعفر بناهي، الذي عمل كمساعد مخرج في فيلم «عبْر أشجار الزيتون».

وكُرِّس بروز كياروستامي التصاعدي ككاتب رئيسي في العام 1997، عندما أنجز فيلمه السابع «طعم الكرز» الذي حصل على جائزة السعفة الذهبية، بالاشتراك مع فيلم «ثعبان البحر»، للمخرج الياباني شوهي إيمامورا، الذي عُرف بـ «كنز السينما اليابانية»، وواحد من كبار مخرجي «الموجة الجديدة».

تدور قصة فيلم «طعم الكرز» حول رجل تتحدَّد مشكلته في من سيدفنه بعد أن ينتحر؛ ما يدفعه إلى اللجوء لمجنّد كردي، وشاب أفغاني، ورجل تركي عجوز له محاولة سابقة في الانتحار. يكتنز الفيلم بالصورة العميقة والذكية في تعبيرها عن مأساة الرجل.

«ستحملنا الريح»... شعرية الحوار

تناوب كياروستامي في مهنته على أعمال لاحقة امتازت بالشكلية، مثل فيلم الدراما الشعرية «ستحملنا الريح»، وأنجزه في العام 1999، ويتناول قصة رجل وزميله يعيشان في المدينة، ويذهبان لقرية بعيدة بين الجبال لانتظار موت عجوز، بينما يساعدها أهل القرية جميعاً لتبقى على قيد الحياة؛ حيث وظَّف كياروستامي في هذا الفيلم عدداً من مقاطع الشعر الفارسي في جانب من حواراته. امتاز الفيلم بأنه على رغم سماع صوت شخصيات كثيرة فيه إلا أنها غير ظاهرة. نحو 13 - 14 شخصية لا تظهر طوال الفيلم. وكذلك فيلم «عشَرة» وقام بتنفيذه بواسطة آلتي تصوير رقميتين ثبّتهما بسيارة تتبّع بواسطتهما امرأة وهي تقود سيارتها في شوارع طهران، مستكشفاً القضايا الاجتماعية المرتبطة بدور المرأة في إيران. وفيلم «ABC إفريقيا»، وفيه يستعرض حياة أيتام الإيدز في أوغندا الذين يحبُّون الحياة، وهم يعيشون وسط كارثة الإيدز التي تحصد الأرواح بينهم. وفيلم «تذاكر». كما قدَّم فيلماً من ثلاثة أجزاء مع المخرج الإنجليزي كين لوتش والمخرج الإيطالي أرمانو أولمي. انتقل أيضاً إلى ما يمكن وصفه بالوثائقي «الأدْنَوي»، ويضم مجموعة لقطات طويلة من المشاهد الإسبانية وغيرها، ويتألف من سلسلة لقطات رئيسة لنساء يشاهدن فيلماً لا يمكن رؤيته.

من جانبه، ردَّد المخرج الإيراني محسن مخملباف، قوله، إن السينما الإيرانية تدين بسمعتها العالمية لزميله المخرج، إلا أن هذه الرؤية لم تترجم بوضوح أكبر فترة عمله في وطنه.

موضحاً لصحيفة «الغارديان» «قدَّم كياروستامي للسينما الإيرانية الصدقية الدولية التي تتمتع بها اليوم». وأضاف «لكن أفلامه - للأسف - لم يتم الإقبال عليها بذلك القدْر في إيران. لقد قام بتغيير السينما في العالم. قام بإنعاشها وأنْسنتها في تناقض مع الصيغة الأولية لهوليوود».

في الأسبوع الماضي، كان كياروستامي بين 683 من صانعي الأفلام الذين طُلب منهم الانضمام إلى أكاديمية فنون الصور المتحركة والعلوم الأميركية. وعلّق على طبيعة تأخر الدعوة كثيراً. في العام 2003. صنَّفتْه صحيفة «الغارديان» في المرتبة السادسة ضمن أفضل مخرجي العالم.

لقطة من فيلم «طعم الكرز»
لقطة من فيلم «طعم الكرز»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:31 ص

      كياروستامي كان مخرجا كبيرا والعديد من المخرجين الايرانيين تأثروا به وباعماله بطريقة مباشرة وغيرمباشرة

اقرأ ايضاً