لم يكن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وهو يزجُّ بفكرة تنظيم الاستفتاء على استمرار عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد البريطاني، ضمن حملته الانتخابية خلال 2014، يعلم أن نتيجة الاستفتاء بغالبية 52 في المئة للخروج من الاتحاد، ستؤدي إلى استقالته بعد أن عاد، فظفر بالسلطة لدورة ثالثة، وستطلق جملة متسارعة من التطورات أحدثت زلزالاً في الحياة السياسية البريطانية، بل هزة سياسية واقتصادية تجاوزت الاتحاد الأوروبي ذاته.
غلطة الشاطر بألف، فالمناورة الانتخابية من أجل جذب أصوات دعاة الخروج من الاتحاد الأوروبي تحت شعارات تدغدغ ماضي الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بالعودة بحرية إلى الساحة الدولية، وحملة الكراهية ضد العمالة الأجنبية في أنها السبب وراء البطالة في أوساط البريطانيين، وغير ذلك، قد نجحت في صب أصوات الناخبين لصالح حزب المحافظين، وخسارة مخيفة لحزب العمال، لكنها في الوقت ذاته صبت في صالح حزب اسكتلندا الوطني، الداعي إلى انفصال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، وكذلك حزب استقلال المملكة المتحدة الداعي إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.
ترتب على نتيجة الانتخابات استحقاقات لم يحسب لها كاميرون وحزبه حساباً، وهي حتمية إجراء استفتاء على استقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة، وهو وإن لم يحز على الغالبية، لكن خسر بفارق ضئيل مما شكل سابقة لمطالبة باقي مكونات المملكة المتحدة (ويلز وايرلندا الشمالية) بالاستقلال مستقبلاً. والاستحقاق الثاني دخول الحكومة البريطانية بزعامة كاميرون في مفاوضات شاقة مع الاتحاد الأوروبي، وكل ما تمخض عنها إعفاء بريطانيا من تقديم الضمان الاجتماعي لفئات من العمالة الأوروبية المهاجرة، لكن الاستحقاق الأكبر ورغم التحول الكبير في موقف كاميرون بدعوة الناخبين البريطانيين للتصويت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، إلا أن عملية الاستفتاء التي جرت في (23 يونيو/ حزيران 2016)، قد تسببت في تشققات في كل من أكبر حزبين تناوبا على حكم المملكة المتحدة طوال قرن مضى، وهما حزب المحافظين وحزب العمال، في المقابل تعززت وحدة الحزب الوطني الاسكتلندي، قاد بوريس جونسون عمدة لندن السابق والقيادي في حزب المحافظين، وهو للعلم ابن لمهاجر، حملة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي مدغدغاً عواطف الناخبين البريطانيين بإعادة مجد بريطانيا العظمى وحل مشكلة البطالة في أوساط البريطانيين وتحسين الخدمات الأخرى التي يضغط عليها أكبر من ثلاثة ملايين وافد معظمهم من أوروبا الشرقية.
أما نايجل فاراج، زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة، فقد ذهب بعيدا في حملة التضليل مصورا أن خروج المملكة المتحدة سيفتح لها أبواب العالم للتجارة وخصوصاً مع الاقتصادات الناهضة مثل الصين والهند ودول الكومنولث السابقة، كما قاد حملة كراهية ضد الأجانب والمواطنين من أصول إسلامية والعالم الثالث.
بالنسبة للحزب الوطني الاسكتلندي، فقد قاد حملة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وربط استمرار اسكتلندا ضمن المملكة المتحدة بنتيجة استفتاء حزب العمال الذي خرج بخسارة ثقيلة من الانتخابات، بحيث استقال زعيمة ايدميليبان، وآلت زعامته بشكل مفاجئ إلى النائب اليساري المخضرم جيرمي كورين، في انتخابات مباشرة لأعضاء الحزب، وتحت شعار إعادة الاعتبار للأفكار الاشتراكية، والحقوق الاقتصادية الاجتماعية للطبقات الدنيا، والحد من تحكم وسيطرة بروكسل. وبالفعل شهد حزب العمال في ظل قيادته عودة إلى الفاعلية السياسية. لكن جيرمي كورين لم يقد حملة فاعله لحزب العمال، لبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، وظل مترددا. ما تسبب في رد فعل قوي في قيادة الحزب وكتلته البرلمانية في فشل البقاء في الاتحاد، وأدى إلى زلزال لا سابق له في الحزب، إلى حد استقالة معظم وزراء حكومة الظل، وتصويت الغالبية الساحقة لكتلة الحزب البرلمانية لاستقالته، لكنه متمسك بزعامته للحزب، وحسم الموضوع في مؤتمر الحزب القادم في الخريف (9 سبتمبر/ أيلول 2016) مما سيفاقم الانقسامات داخل الحزب.
حزب المحافظين أيضا يشهد انقسامات مريرة، رغم ابتعاد بوريس جونسون عن الترشح لخلافة كاميرون حيث ترشح حتى الآن خمسة قيادين وهم وزيرة الداخلية تيريزا ماي، المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد، ووزير العدل مايكل غوف، القيادي في حملة خروج بريطانيا من الاتحاد، ووزير العمل ستيفن كراب (من ويلز) الداعي للحد من الهجرة، ووزير الدفاع السابق ليام فوكس، ووزير الطاقة أمدريا ليدسم، وستنعكس الانقسامات في أوساط الحزبين (العمال والمحافظين) بتراجعهما في الانتخابات النيابية القادمة، وصعودا لحزبي استقلال المملكة المتحدة بزعامة نايجل فاراج والوطني الاسكتلندي، بزعامة نيكولا ستورجين، وقد تظهر أحزاب انتخابية جديدة على غرار الصعود المفاجئ لحزب سيريزا بزعامة اليساري تسيبراس في اليونان، وحزب النجوم الخمسة في إيطاليا، بعد أن أضحت الحياة السياسية في حالة عدم اليقين؛ لكن أهم ما تمخض عنه الاستفتاء وخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هو الانهيار الكبير في بورصة لندن والجنيه الإسترليني وهبوط في قيمة أسهم معظم الشركات والعقارات لا سابق له حتى خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي الوقت الذي يصر فيه كاميرون على أن مفاوضات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، متروك لرئيس الوزراء الجديد وهو الزعيم الجديد لحزب المحافظين الذي سينتخب من مؤتمر الحزب في (9 سبتمبر 2016)، فإن قيادة الاتحاد الأوروبي وزعماءه الكبار مثل ميركل وهولاند ورينزي يصرون على التعجيل بالمفاوضات خوفا من ظاهرة الدومينو للخروج البريطاني، بحيث يغري دولا أخرى تواجه المصاعب مثل اليونان وإسبانيا، وقطع دابر العملية.
صحا البريطانيون على واقع مخيف وهو إمكانية تفكك الاتحاد الأوروبي ذاته، فالحكومة الاسكتلندية بزعامة نيكولا ستورجين، تصر على البقاء في الاتحاد الأوروبي وقد صوت ناخبوها بـ 65 في المئة لبقاء اسكتلندا في الاتحاد الأوروبي، حتى لو تطلب الأمر خروجها من المملكة المتحدة في استفتاء لاشك قادم.
أما في ايرلندا الشمالية والتي بالكاد دخلت في حالة سلم أهلي بعد حرب أهلية دامية، فقد عادت دعوات يقودها حزب الشين فين للوحدة مع جمهورية ايرلندا، وخصوصا أن اقتصادها مرتبط بايرلندا الأم أكثر منه بالمملكة المتحدة.
لقد كشف تصويت الاستفتاء عن اتجاهات ذات معنى، فغالبية الشباب دون الثلاثين، وسكان المدن الكبرى مثل لندن وليفربول، وسكان اسكتلندا وجبل طارق صوتوا إلى جانب البقاء بينما صوت كبار السن وسكان الريف الإنجليزي وويلز وبغالبية ضئيلة سكان ايرلندا الشمالية لصالح الخروج، وبذلك انقسم مجتمع المملكة المتحدة جيليا ومناطقيا. كما اكتشف الناخبون بمن فيهم مؤيدو الخروج عن حملة تضليل للناخبين من كل من زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة فاراج، وعمدة لندن السابق بوريس، وأمام فداحة الخسائر الاقتصادية وتوجه الكثير من الشركات العالمية بل والبريطانية للخروج من بريطانيا إلى أوروبا، وتوالي تسريح العمالة بأعداد كبيرة، والمستقبل المظلم لبريطانيا، بدأ حراك الشباب والشارع البريطاني خارج إطار الانتماء الحزبي والمناطق، بمظاهرة ضخمة يوم الجمعة (1 يوليو/ تموز 2016) انطلقت من باركلين بمحاذاة منتزه ماربل اش باتجاه البرلمان البريطاني وشعارها العودة لأوروبا (Back To Europe) مطالبة البرلمان البريطاني بإبطال نتيجة الاستفتاء، أو تنظيم استفتاء ثان، وهو ما يطالب به أربعة ملايين ناخب بريطاني حتى الآن.
بعد الصدمة لنتيجة الاستفتاء، وجد البريطانيون أنفسهم في العراء، وأن أحزابهم وسياسييهم وبرلمانهم خذلهم، ولذلك لا يستبعد أن تتشكل حركة جماهيرية على غرار اليونان، ليفرض البريطانيون قرارهم الذي سلبه منهم السياسيون بمناوراتهم النفعية، وعدم ارتقائهم للمسئولية التاريخية والرؤية الثاقبة من أن مستقبل المملكة المتحدة هو في كونها عضوا فاعلا في الاتحاد الأوروبي، فهل تنتصر إرادة الجماهير على ألاعيب الأحزاب التقليدية والسياسيين الانتهازيين؟ هذا ما ستظهره الأيام المقبلة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5054 - الجمعة 08 يوليو 2016م الموافق 03 شوال 1437هـ
أنا فقط اتعجب لسعة حلم الله على هذا البلد الذي اسمه بريطانيا