قليلون هم الشعراء المقاومون للإحباط في العالم. معظم الشعر؛ وإن امتلأ بالرومانسية لا يعدم استدراجاً إلى الإحباط. الشاعر الصيني الرومانسي، المتأمل، وانغ جوه جن، هو رائد مقاومة الإحباط في بلاده، وواحد من أكثر الشعراء مبيعاً. هو شاعر الأمل؛ على رغم ما يضج به هذا العالم من يأس يكاد يكفي الكواكب المنتسبة إلى مجرتنا.
العالم يمعن في الذهاب إلى يباسه. لم تترك الثورات التقنية والصناعية شبر اهتمام بالجانب الذي يحفظ للعالم ببشره توازناً: الرومانسية. الركون إلى الحب، الطبيعة، التأمل، ممارسة الجنون أحياناً، في حدود الفن؛ ما سينتج عنه تثبيت لعقل العالم كما يجب.
كتاب مجلة «الدوحة» الشهري، الذي يترافق إصداره مع عددها، ثبَّت الشاعر الصيني وانغ جوه جن، ضمن المختارات الشعرية ومن أعماله، قامت بترجمتها عن الصينية مي عاشور.
في مقدمتها لديوانه كتبت عاشور «إننا في أمسِّ الحاجة إلى كل شيء يقاوم الإحباط، ويبعث أملاً جديداً، فكل شيء يحتوي على هذه الروح، هو بمثابة ندفات أمل وطاقة، تتطاير من حولنا، من حين إلى آخر، لذلك قررت أن أهدي القارئ العربي مختارات من قصائد شاعر الأمل وانغ جوه جن».
في الثقافة الصينية واستناداً إلى معتقد الغالبية العظمى من شعبها، إذا ما عرفنا أن البوذية «تم تأسيسها عن طريق التعاليم التي تركها بوذا (المتيقظ)». لا يمكن لليأس أن يحقق تيقظاً، إذ في اليأس غياب، ووحده الأمل الذي يمكن له ادَّعاء أنه مستوٍ على يقظته. وعلى رغم ذلك؛ ليست غالبية ما أنتجته الصين تذهب في اتجاه تكريس الأمل، بحكم تحولات عرفتها؛ وخصوصاً مع مطلع القرن الماضي، بكل أحداثه وانقلاباته، والتغيير الذي عمل على إعادة صوغ الإنسان الصيني بعيداً عن العقيدة البوذية؛ وعلينا هنا أن نستحضر النتائج والمآلات التي تمخَّضت عنها الثورة الثقافية في الصين.
الفارق في الأمر أن يتم استرجاع الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن، والشعر خصوصاً في هذا الاتجاه؛ برفد من العقيدة البوذية، ويمكن القول، إن وانغ نجح في هذا الاتجاه بامتياز.
وبحسب تعريف المترجمة، فإن وانغ يعد أسطورة الشعر الصيني المعاصر، وذهبت الألقاب إلى حد وصفه بـ «أمير شعراء العصر»، من حيث التأثير الذي أحدثته نصوصه على إقبال الشعب الصيني عليها؛ وخصوصاً بين جيلي شباب الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إضافة إلى أن عديداً من شباب المدارس والجامعات في الصين يحفظون نصوصه ويرددونها، بسبب بساطتها وعمقها في الوقت نفسه.
يظل عامل الحماسة هو المتحكِّم في مسارات نصوص وانغ، لأنه يتوجه بكلِّيته إلى الشباب تحديداً، ليقينه بأن نفاد الأمل في أوساطهم يعني فيما يعنيه نفاده في الأمة الصينية، باعتبارهم القوة التي ستحدد مسارات مستقبلها، أو خيبتها في الوقت نفسه.
لم يكن الشعر وحده هو مصدر تلك الطاقة الخلَّاقة التي استطاع تمريرها على أمته، فهو بالتزامن مع إبداعه كشاعر، رسَّام وخطَّاط وموسيقي (ملحِّن)؛ ما يعني أن الفضاءات تلك أتاحت له سنَداً ورافداً عمل على تعميق تجربته التي كانت محط تركيزه واشتغاله.
وسط كل تلك الحفاوة التي قُوبل بها في أوساط الشباب، لم ينجُ وانغ من هجومات وانتقادات لاذعة ومترصدة لتجربته التي حاولت تسفيهها، بل ووصلت تلك الانتقادات إلى درجة عدم الاعتراف به أساساً كشاعر، إنْ كان على مستوى المحتوى؛ أو على مستوى المهارة الفنية؛ إلا أن الرجل لم يُعِر ذلك اهتماماً، انشغالاً بمشروعه، من دون أن ينشغل برابطات التشويش التي تربَّصت به.
وانغ جوه، المولود في العام 1956 في بكين، لم يكن بمنأى عن تأثير الثورة الثقافية الصينية عليه في مراحل تعليمه، لكن ظروفاً أدَّت به إلى الانقطاع عن دراسته في المرحلة الإعدادية، ليعمل لفترة في أحد المصانع لسنوات، وكان وقتها في الخامسة عشرة من عمره، ليستأنف دراسته في العام 1977، لينقطع ثانيه عنها لمدة سبع سنوات؛ إلا أنه - وهو شاعر الأمل -– استطاع أن يكمل دراسته الجامعية بتخرُّجه في قسم الأدب الصيني في جامعة تجي نان في العام 1982.
من أبرز أعماله: «الولع بالحياة»، «أفكار الشباب»، و «خواطر عشوائية للمطر». وفي العام 2015، نشر آخر عمل له حمل عنوان «شباب على الطريق»، وبفضل حسه ولغته الملفتة والعميقة، تُرجمت أعماله إلى اللغات: الكورية واليابانية والإنجليزية. وفي سن التاسعة والخمسين توفي، وتحديداً في 26 أبريل/ نيسان 2015؛ بعد صراع مع المرض.
في العميق من تأملاته، فيما يشبه الدليل الذي يتصدَّى له الشعراء في العالم. الدليل إلى الجمال، والتأمل في عزلة وافرة يحظون بها، يكتب وانغ عن البدايات، وكأنه يرصد النهايات. البدايات من حيث هي روح، والنهايات من حيث هي روح لا تنطفئ ولا تذوي. نقرأ: «لن تعرف، أبداً إلى أين ستقودك البدايات التي تكون راضياً عنها ومتحمِّساً لها، ولكنها - قطعاً - ستقودك إلى مكان تُصغي إليه روحك، وينشرح له قلبك».
لا ينشدُّ وانغ إلى تهاويم فيما يكتبه، بقدر ما ينشدُّ للقريب إلى النفس البشرية؛ سواء كانت في الصين؛ أو في المجهول من الربع الخالي. القبض على المشاعر هي هي لا تمسسها غربة أو غموض فيما لو تجاوزت الأرض/ القارة التي ينتمي إليها، لأنها في نهاية المطاف تشتغل على الداخل في الإنسان، وهو المشترك مع أشباهه وبني جنسه.
في نص «يكفي أن تُعطِيَني ابتسامة»، نقرأ: «لا تمنحيني مشاعر فيَّاضة؛
فكيف لي أن أردَّها لكِ؟
فديون المشاعر هي الأثقل؛
لا سبيل لي كي أنساها أو اسدِّدها.
يكفي أن تُعطِيَني ابتسامة،
فهذا التصريح هو الأكثر تحريكاً للمشاعر:
كأنه ربيع دافئ، عذْب، وجميل».
وفي نص «أتتذكَّر...؟» يقبض وانغ على النقيض من اشتغاله على المساحات التي تمس الروح «المائية» للشباب، انتقالاً إلى الذين جعلوا منهم شباباً تواقاً إلى الحياة، ومشغولاً ومشتغلاً بالأمل: الكهول، الذين طعنوا في السن، ولكنهم منحوا الحياة أكثر من روح. نقرأ: «أتستدعي شبابك،
بسبب شيخوختك الحالية؟
أيملك البطل، بعد شيْبِه،
سوى أن يتذكَّر؟
بوسعك، فقط، استدعاء
ملامح الماضي وعزِّته،
أتتذكَّر حبَّك الأول،
بسبب وحدتك الحالية؟».