منذ سنوات أوضح المفكر الفلسطيني الأميركي ادوارد سعيد، القواسم المشتركة بين الكاتب والمثقف وأهمية دورهما في المجتمع، أو ما يسميه بالحيز العام. وقد خلص إلى أن مهام الكاتب والمثقف تكاد تكون واحدة، لا بل لا يمكن الفصل بينهما طالما أن وظيفتهما من المفترض أن تكون واحدة، وهي الجهر بالعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية فيما يتعلق بالشأن العام.
لكنه في الوقت نفسه يميز بين كاتب وكاتب، ومثقف ومثقف، فالكل له علاقة بالحيز العمومي بهذا الشكل أو ذاك، لكنهم ليسوا كلهم من المساندين للعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية، لذلك ومن باب التمييز بين الكاتب/ المثقف الملتزم بقضايا شعبه وأمته من جهة، وذاك المثقف الملتزم بالصمت أو المجاهرة بدعم الإجراءات المعادية للعدالة من جهة أخرى، فإن ادوارد سعيد يسمي الأول الملتزم بمساندة العدالة الاجتماعية والمساواة السياسية الكاتب / المثقف، بالمثقف الجدلي، في قبالة الكاتب/ المثقف السلطوي، وهو هنا يقتفي مفهوم المفكر الإيطالي غرامشي.
ولكن لماذا المثقف الجدلي؟ لأنه يلتزم بمجموعة من القيم والمبادئ التي عادة ما تثير سجالات وجدالات جوهرية بالنسبة إلى المجتمع، في ماضيه وحاضره ومستقبله، إنه المثقف المشاكس. وبحسب ذلك فإن دور الكاتب/ المثقف الجدلي هو في تنوير المجتمع عن اختلالات الرؤية الرسمية لمقاربة القضايا الجوهرية الخاصة بحياة الناس، أي تعرية البعد السلطوي الايديولوجي الزائف للرؤية السائدة والمصالح التي تحكمها، والتي يراد منها تعليب المجتمع بتنوعاته وتعدديته في كبسولة، والتعمية على فهمه لما يدور.
ولكن دور الكاتب / المثقف لا يقف عند هذا الحد بل يتجاوز ذلك، إلى ما ليس مرئيّاً في الخطاب العام، هذا الخطاب المحكوم بالمصالح له جوانب خفية وعصية على الفهم، ومضللة في كثير من الأحيان، وأكثر خطورة على فهم الناس. وهنا يكون دور المثقف الجدلي مهمّاً، في هذه الحال عليه أن يهزم الصمت المفروض، والسلطة الخفية التي يتمتع بها أي خطاب رسمي، وخاصة في ظل ما يقوم به ذلك الخطاب من كبح للاعتراضات أو التحديات التي يواجهها.
إذن، فأنْ يكن الكاتب/ المثقف جدليّاً، معنى ذلك لابد أن تتوافر فيه مجموعة من السمات أو الخصائص، وهي: أن يكون مهتما بالحيز العام ومشاكله، أن يكون - وهذا هو الأهم - مهتما بالعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية، والوقوف إلى جانب الفئات الاجتماعية الأقل حظّاً من الخير العام، المطالبة بالحرية بالمطلق، أي بما تستتبعه من تطلعات نحو التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية للأفراد والجماعات.
هذه السمات هي نفسها تعبر عن جملة من القضايا أو الاشكاليات الواقعية القائمة فعلاً في أي مجتمع، والتي تمثل شأناً عامّاً وحقولاً من الجدل والسجال الذي لا ينتهي. وما على المثقف الجدلي إلا أن يكون مهموماً بهذه القضايا؛ لأنها من المفترض أن تكون المجال الحيوي الذي يتنفس من خلاله، ويقوم بتأدية رسالته من خلال التصريح بها، وكشف ما يعتريها من غموض أو تعمية بالكتابة والقول.
وصفة الجدلي هنا ليس بالمعنى السلبي السجالي، بل بالمعنى الفلسفي القائم على معرفة ما يمور به الواقع من تناقضات. وهنا يوازي الجدل معنى التنوير، أي كشف ما هو معمي، وتنوير ما هو معتم في حياة المجتمع وتقديم البدائل للخروج من المأزق.
اما الكاتب / المثقف الذي يؤثر الصمت، فوفقاً لإدوارد سعيد فلا يدخل في عداد المثقفين الجدليين، لكنه بالتأكيد ينتمي الى فئة المثقفين بوجه عام، ولكن دون أن يحظى بقيم المثقف الجدلي، ومدى التزامه بالعدالة الاجتماعية والمساواة السياسية وعدم التمييز بين البشر، إنه كاتب أو مثقف السلطة، أو على أقل تقدير ممن يؤثرون السلامة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5052 - الأربعاء 06 يوليو 2016م الموافق 01 شوال 1437هـ
هم آفة
المثقفون أو مدعو الثقافة هم آفة من آفات عصرنا بليت بهم الأمة والاوطان إلا ما ندر لاتنظر إلى أقوالهم بل انظر إلى كيف يعيشون مرفهين ينعمون بعطايا ال... ويقولون قول زور وبهتان.