جاء وقع قرار الاتحاد الأوروبي بتمديد عقوباته الاقتصادية ضد روسيا حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2017 ثقيلاً وموجعاً على موسكو، وليس خافياً على المتابع أن هذه العقوبات فرضت عليها بسبب اتهامها بالتدخل في شرق أوكرانيا والتورّط بدعم حركة المتمردين الانفصالية والموالين لها، إلى جانب التسبب بمقتل أكثر من 9400 قتيل في الأحداث التي تمّت خلال عامين، وهذا بالطبع تنفيه موسكو بشكل قطعي، أضف إليها العلاقة التأزمية مع الإتحاد الأوروبي جراء الإعلان عن عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا الأم عام 2014 بعد إجراء استفتاء شعبي، ناهيك عن عدم التزامها كما قيل بتنفيذ الاتفاقات المبرمة وتطبيق التدابير السياسية والاقتصادية وانتهاك الهدنة يومياً في المعارك، الأمر الذي ترفضه موسكو جملةً وتفصيلاً.
ولمحاولة استقراء ديناميات هذا الوضع المتشابك وانعكاساته، لابد من النظر إلى طبيعة العقوبات وتأثيراتها في سياق مناخات الوضع المحلي وما يواجه روسيا كقوة دولية من تحديات.
اتفاقية السلام «مينسك»
فرضت بروكسل العقوبات على موسكو من خلال ثلاثة مجموعات من الالتزامات كانت تأثيراتها ولا تزال موجعة وبالغة على الاقتصاد الروسي، لم لا وقد فُرضت ضد أشخاص روس وأوكرانيين اعتبرهم الاتحاد مسئولين عن الإخلال بوحدة الأراضي الأوكرانية، كما شملت مصارف ومؤسسات نفطية وطالت شركات أسلحة روسية. ومعروفٌ أن الاتحاد الأوروبي يطالب وباستمرار روسيا باحترام تطبيق الاتفاقات المبرمة ومنها اتفاقية السلام «مينسك» التي وقعت في بيلاروسيا بين روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا في سبتمبر/ أيلول 2014، والتي تضمنت 13 بنداً واستهدفت وقف إطلاق النار في مقاطعات شرق أوكرانيا، والتقيّد بعملية تنفيذ المتفق عليه بصورة كاملة وصارمة وسحب جميع الأسلحة الثقيلة مسافةً متساويةً من الجانبين الروسي والأوكراني كي يتم إنشاء منطقة أمنية عازلة، بيد إنه وبعد تقييم مدى تنفيذ الاتفاق، قرّر الاتحاد تمديد العقوبات مدة ستة أشهر قادمة.
موسكو بالطبع لم يرق لها القرار الأوروبي ولم تصمت وتمرّره مرور الكرام، فقد ندّدت وزارة خارجيتها فوراً بقرار تمديد العقوبات واعتبرته قصر نظر في سياسة بروكسل، وأشارت في بيانها إلى أنه «من العبث ربط الإجراءات التمييزية ضد روسيا التي ليست طرفاً في النزاع الداخلي الأوكراني»، وثمة خطوة هجومية اتخذتها كردة فعل بفرض حظر على واردات المنتجات الزراعية والغذائية القادمة من دول الاتحاد الأوروبي، كما مدّد الرئيس فلاديمير بوتين هذا الحظر لنهاية 2017. وعليه يجوز السؤال عن دلالات ردة الفعل هذه ومؤشراتها؟
حسب التحليلات، موقف موسكو يشي بقسوة العقوبات وشدتها على الاقتصاد الروسي وتأثيراتها الاجتماعية خصوصاً عند التأمل فيما تكشفه تباينات الوضع المحلي وحالة موسكو كقوة دولية، كيف؟
النفط ولا غيره
تبعاً لمحللين اقتصاديين روس، وما خلصت إليه نتائج استطلاعات رأي محلية، فإن روسيا تعاني من أوضاع اقتصادية واجتماعية مأزومة، تتمثل مؤشراتها في أن 42 في المئة من الأسر الروسية تعاني من تدهور وضعها المالي خلال الأعوام الأخيرة، فيما يشكو 40 في المئة من هذه الأسر صعوبة الحصول على فرص عمل.
أما المؤشر الفاقع فيدلّل عليه تقليص نفقات الدولة العامة على البرامج الاجتماعية بنسبة 10 في المئة بسبب تداعيات انخفاض أسعار النفط عالمياً، والجميع يعلم بأنه السلعة التي تعتمد عليها إيرادات الميزانية العامة وبأكثر من 50 في المئة في الوقت الذي يتسم اقتصادها بعدم تنويع مصادر الدخل، إضافةً إلى تراجع أسعار الغاز الطبيعي المصدّر للخارج، فكل هذه التخفيضات وغيرها من عوامل لاشك تساهم بهذا القدر أو ذاك في تباطؤ نمو الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي، وتترك آثارها السلبية على ميزانية الدولة وميزان المدفوعات وانكماش ميزانية المشاريع الاجتماعية للحكومة، فضلاً عن تأثيراتها على سعر صرف العملة المحلية «الروبل»، وماذا أيضاً؟
انخفاض القوة الشرائية للمواطنين الروس وبأكثر من 9 في المئة تبعاً لبيانات روسية رسمية أشار إليها أحد المحللين بسبب ارتفاع أسعار السلع والخدمات وانخفاض المداخيل المتوقع استمراره حتى 2018. في هذا الصدد يقدّر وزير المالية الروسي انخفاض مداخيل المواطنين بنسبة 7 في المئة في 2016. كما يشير اقتصاديون روس بأن أبرز المتضررين من هذا الوضع هم ذوو الأجور الثابتة والمتقاعدون، حيث تبيّن الإحصاءات أن نحو 40- 45 في المئة من الأسر تضمّ متقاعدين، ما يعني بأن تقلص قدرة الدولة على الإنفاق ووقف أي تعويضات تدفعها الحكومة للمتقاعدين جزئياً أو كلياً سيفاقم حتماً من تردّي الوضع الاجتماعي ويرجح ارتفاع خط الفقر الذي أفصحت عنه أصلاً البيانات الرسمية بارتفاع أعداد الفقراء بنسبة 3 في المئة، وإن من يعيشون تحت خط الفقر يقدّرون بـ23 مليون نسمة، أي ما نسبته 16 في المئة من إجمالي عدد السكان البالغين 143 مليون نسمة.
طواغيت الأوليغاركية
من هنا فإن تحديات الوضع السابق وتفاعله مع الضغوط الأوروبية التي تمارس عبر سلسلة العقوبات وتجديدها، حتماً ستساهم في توسيع حجم الفجوة بين طبقة الأغنياء والفقراء والتي وصلت -استناداً لبيانات رسمية- إلى 16.8 مرة، لاسيما مع جشع وفساد طبقة رجال الأعمال وطواغيت رؤوس الأموال ممن يطلق عليهم بـ»الأوليغاركية» الخاضعة للكرملين والمتحالفة مع الدولة وقطاعها الاقتصادي، وهي التي جنت أموالاً طائلة من بيع ممتلكات الدولة بأسعار زهيدة، إذ تشير الدراسات إلى أن مئة من الأثرياء يتحكمون بنحو 35 في المئة من الثروات بسبب تطبيق برامج الخصخصة والنظام الضريبي الثابت الذي لا يتأثر بحجم الدخل. ومما يزيد الوضع تردياً ويجعل الواقع خانقاً، استمرار تراجع إيرادات النفط والغاز، وزيادة إنفاق روسيا العسكري بأكثر من خمس مرات كما تشير التقارير، خصوصاً مع تدخلها المباشر في مستنقع الحرب على سورية والحديث عن عزمها إقامة نظام دفاعي مضاد للصواريخ مشترك مع الجمهوريات السوفياتية السابقة والأعضاء في منظمة «الأمن الجماعي» التي تضم روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان، وذلك على رغم الصورة الوردية التي رسمها فلاديمير بوتين لجذب المستثمرين أثناء «منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي العشرين»، حيث تحدّث عن لبرلة الاقتصاد الروسي وحماية الاستثمارات الأجنبية وتشجيعها، وتحسن الأداء الاقتصادي والتوجه نحو الخصخصة الجديدة التي ستشمل شركات روسية كبيرة مملوكة للدولة كلياً أو جزئياً.
خلاصة الأمر، على رغم عدم توحّد مواقف دول الاتحاد الأوروبي نسبياً تجاه العقوبات، خصوصاً لجهة أغلب أحزاب اليمين الأوروبي وتململ بعض رجال الأعمال الأوروبيين من العقوبات ومن تحذيرهم من الاستثمار في روسيا والمشاركة في نهج الخصخصة الجديدة، ما يعني أن الاقتصاد الروسي ليس المتضرر الوحيد من العقوبات إنّما أوروبا؛ مع كل ذلك، إلا أن روسيا تدرك تمام الإدراك بأنها تواجه تحدياتٍ تتمثل في استمرار استنزافها بالعقوبات القاسية التي تتفاعل مع ارتدادات سياساتها الخارجية وتدخلها في مستنقع الحرب على سورية وتأثير أكلاف عمليتها العسكرية في هذه الحرب على مستوى معيشة المواطنين. كما تدرك طبيعة استنزافها في سباق تسلح يتعلق بنشر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية-الأطلسية على أراضي بعض دول أوروبا الشرقية كبولندا الذي ترفضه روسيا بشدة كونه يقوّض قوة الردع النووي لها، ويهدّد الاستقرار العالمي، وينتهك توازن القوى القائم في المجال الصاروخي النووي، وكلها تمثل أخطاراً على الأمن القومي الروسي.
روسيا حقاً أمام خطر حقيقي على المدى الاستراتيجي، فما هي فاعلةٌ إزاء ذلك؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5051 - الثلثاء 05 يوليو 2016م الموافق 30 رمضان 1437هـ