العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ

وشائج تتمثل الإنسان المندمج في الثقافات (1)

في الملتقى الأهلي الثقافي

«يثير مشروع وشائج من شجون الفكر ما يثير لجدته في بابه ولما احتواه من عناصر فكرية في الحوار بين الثقافات والحضارات، وهو من الأعمال القليلة التي ستظل تثير مثل هذا الحوار الممتد، رغم أن المظاهر الاحتفالية قد تحجب ما كان في العمل من أفكار وإطروحات جديدة على الساحة الثقافية العربية، في مقاربة حوار الثقافات» هذا ما أشار إليه الباحث التونسي والمستشار الثقافي محمد النويري غداة تقديم قراءة في مشروع وشائج بالملتقى الأهلي الثقافي بين الناقد المسرحي وأستاذ النقد والأدب الحديث بجامعة البحرين إبراهيم عبدالله غلوم، والأكاديمي التونسي وأستاذ علوم الإعلام والاتصال عبد الله الحيدري وتنفرد الوسط بنشر قراءتيهما على حلقتين.


مشاهد شعرية متحررة

في البداية تحدّث عبد الله الحيدري فأشار إلى أن وشائج مشروع لافت وهو من النصوص التي تحيطها مناهج وتخترقها مصطلحات ومفاهيم «قد وجدت نفسي أمام مشاهد شعرية متحررة من وطأة المناهج والمقاربات التي ألفتها في الحقل الذي انتسب إليه ولا أخفي أنني وجدت صعوبة في فهم هذا الأثر القيم الذي أبى صاحبه أن يقدمه إلا وهو محفوف بالغموض، فالشاعر وهو يقرأ لا يروم الوضوح في شعره وأظن أنّ ما تسنّى لي استخلاصه من من هذا الأثر المدجّج بالألغاز يمكن أن يشكّل مدخلا لمباحث جديدة قد تثري العمل».


اندماج أم وشائج

وبالنسبة لعنوان الكتاب أضاف الحيدري «لو قمت بترجمة عنوان هذا الكتاب لاخترت له عنوان «كونفير جونس» convergence بمعنى الاندماج لأنّني أرى أنّ معنى : Affinites بالفرنسيّة وهي الترجمة المقابلة لوشائج في موضوع الحال، لا تتجاوز دلالاتها مستوى الملاءمة والتناغم، وهي دلالات مكنونة في الوشائج، إلاّ أنّ وشائج كما قرأتها وأدركتها تمثّلت أبعادها في معاني الاندماج الذي تتجاوز دلالاته عتبة التناغم والملاءمة والتجاذب والتجانس، لتستقرّ عند معنى دخول الشّيء في الشيء والاستقرار فيه، وهذه ترجمة رمزيّة ومادية لحالة الاندماج اليوم الذي يتحقّق على أكثر من صعيد اندماج الوسائط واندماج الخدمات، واندماج الطرفيات، واندماج الثقافات، ونتحدّث كذلك اليوم عن الإنسان المندمج، الذي يستخدم أكثر من وسيط اتصالي في وقت واحد والمندمج الثقافة كذلك. واعتقادي أنّ ما ذهب إليه الشاعر في باقة أشعاره هوّ الاندماج نفسه كما أشرنا إلى معانيه، وكذلك كما ورد في الدليل اللّغوي.


انتظارات المجتمع

وأضاف الحيدري أنّ الاندماج قد تحقق بين الشاعر وبيئته الفيزيائية، وبين الشاعر والبيئة الطبيعية والاجتماعية، وكان هذا باديا خاصة في أعماله الأولى. فالشاعر حاول أن يندمج مع انتظارات المجتمع وما يجده فيه من معاناة وصعوبات وهذا شكل من الاندماج الطبيعي الذي نجده عند كل الأدباء الذين يلتزمون بقضايا عصرهم، ويتغلغلون في قضاياه وهذا الشكل من الاندماج أجده طبيعيا للغاية وهي رسالة من الرسائل يؤديها الأديب والشاعر والمفكر والمثقف.


الموجة التحديثية

وأشار الحيدري إلى أن اندماج الشاعر مع بيئته الرمزية قد يكون تحت تأثير الموجة التحديثية ومسايرة التيار الفكري في الشعر الحديث وهذه المسايرة جعلته مندمجا مع خصائص هذه المرحلة وما تتميز به من تحرر وإبداء الرأي والفكر في كل المجالات، وهذا الشكل من الاندماج يلاحظه القارئ عبر مختلف القراءات التي تقوده من التجارب الأولى إلى الديوان الأخير.


فضاءات غربية

وأضاف الحيدري أنّ هناك اندماج ثالث وهو اندماج الشاعر مع بيئته الثقافية فقد انفتح هذا العمل مع فضاءات ثقافية غربية وكانت له انعكاسات في ثقافات أخرى في الثقافة الفرنسية فهناك لوحات لفنانة تشكيلية فرنسية، وهناك ترجمة من جامعية وأديبة مغربية وقراءات نقدية وانفتاح واندماج على أكثر من صعيد، بالإضافة إلى اندماج اللغات الفصحى والعامية، فقد حاول الشاعر أن يجعل عمله مندمجا بين العقل والخيال، وهذا الشكل من الاندماج ذهب إليه بعض الفلاسفة والابستمولوجيين مثل غاستون باشلار الذي حاول أن يؤسس علاقة بين الأدب والعلم، وكان يسائل هذه العلاقة ماذا بها وهل هي ممكنة أو لا؟ ونجد هذه الارتسامات في ديوان وشائج وعندما نطالع لا يتشابه الشجر نلمس مليا هذا الجانب من الاندماج بين الأدب والعلم، فعلميا لا يتشابه الشجر ولا بأس بين هذا وذاك وقد يكون في اندماج العلوم ثراء للمعرفة والفكر، واندماج العلوم مرحلة عرفتها الإنسانية في النصف الثاني من القرن الماضي وهذا الاندماج خدم المعرفة كثيرا واستثمر في مجالات عدة، ثم إن حقيقة الاندماج في حد ذاتها إذا عدنا إلى الدليل اللغوي نجدها تشكل ظفيرة، ويقال في العربيّة دمجت الماشطة شعرها أي جعلته ظفيرة متماسكة (لسان العرب) وأظنها هنا في هذا الديوان تمثل خصلة من الخصلات خليجية وفرنسية وتونسية وقد كونت ظفيرة ثقافية متماسكة، فيها معنى الأنثى والجمال ومعنى الاتساق والانسجام فلذلك ذكرت في بداية حديثي أنّه لو وكل إليّ ترجمة العنوان لوضعت عنوان الكتاب «كونفير جونس» رغم ما تتضمّنه عبارة Affinites من معان لطيفة تعكس ما اشتمل عليه هذا الأثر.


تلاعب وبالأزمنة

وفيما أسماه الحيدري بالمقاربة الاتصالية أشار إلى أنه وجد في وشائج تلاعبا بالأزمنة بالمعنى الفلسفي للكلمة. فلو درسنا مفهوم الزمن في أشعار علي خليفة لوجدنا انتقالا بارزا بين الأزمنة وخصوصا خلال العقد الأخير. وليس هذا التلاعب بالطبع مصدره الفوضى، بل هو تلاعب مقصود يؤدي معنى إذ يتحول من الزمن الاجتماعي في بداية أعماله إلى الزمن النفسي فيما بعد. وقد كان يهتم بالأنشطة الاجتماعية وبهموم المجتمع ومشكلاته وآلامه، ويصورها لنا وقد تجسّد هذا في أنين الصواري وهو من الآثار التي شدتني كثيرا، فقد لمست روح الزمن الاجتماعي في هذا العمل، وعديد من الشعراء تبنوا هذا الاستخدام للزمن الاجتماعي فلو أخذنا الأدب الفرنسي نجد أن «إميل زولا» تحدّث عن معاناة المنجميّين في أوروبا وهمومهم وتغلغل في دقائق موجوداتهم في فترة حالكة جدا عاشتها أوروبا تحت وطأة بداية الثورة الصناعية، ونجد كذلك هذه الملامح عند الجاحظ عندما صوّر لنا مظاهر البخل عند بني مرو فهو انغماس في مشكلات الناس ومشاغل الناس ويصوّر لنا دقائق الموجودات كيف هي وهذا النوع من الزمن كان في بداية أشعار علي عبد الله خليفة.


الزمن الاجتماعي بداية

وأضاف الحيدري أن موضوع الزمن الاجتماعي موضوع ثري ويهم حركة المجتمع وإذا أردنا أن نفهم ثقافة مجتمع من المجتمعات ينبغي أن ندرس أنشطة ذلك المجتمع في الزمن كيف يؤثثون زمنهم، كيف يعيشون، ما هي أنشطتهم، فالثقافة تفهم من خلال هذا المدخل تفهم من خلال مدخل زمني، ويعدّ روجي سي من المفكرين والمنظرين في الزمن الاجتماعي يقول إذا أردنا إدراك خصائص مجتمع من المجتمعات، ينبغي أن ندرس الهندسة الزمنية لهذا المجتمع فأجد هذا الشكل من التعامل مع الزمن كان في بداية أشعار علي عبد الله خليفة.


الزمن النفسي أكثر ألما

ورصد الحيدري التحول الزمني عند خليفة مشيرا إلى أنه فيما بعد يحس القارئ والمتابع لهذه المسيرة أن هناك تحولا من الزمن الاجتماعي، إلى الزمن النفسي. وهذا الزمن النفسي لا يتحقق إلا عبر اللغة التي هي مطيته فإذا كان الزمن الاجتماعي مطيته أحداث المجتمع فإن الزمن النفسي مطيته اللغة والتغلغل في أعماق العبارات والتراكيب اللغوية، إذ يتخذ الشاعر اللغة متنا ويتخذ من رموزها ودلالاتها أجنحة يصل بها إلى تصوير طريقة تعامله وتفاعله مع الحياة الاجتماعية، فهذا هو الزمن النفسي ويصفه الكثير من الفلاسفة بأنه الأكثر إيلاما من الزمن الاجتماعي فنحن قد نتألم وقد نتأثر بأحداث المجتمع ولكن عندما نتعامل مع اللّغة لتصوير أحداث المجتمع بهذه الطريقة، يكون الزمن النفسي هو الذي يسكننا فنتألم أكثر لأنّ المسألة متصلة بلغة تسكننا ونسكنها وهناك عبارة دقيقة جدا لم أجد لها ترجمة، وفية يقول بول ريكور في ما معناه: المعاناة والمكابدة ليست الألم. فنحن قد نتألم ولكن المكابدة ليست الألم فهذا الزمن النفسي هو الذي أراه في المراحل الأخيرة في أشعار علي عبد الله خليفة، هذا هو التحول الحقيقي الذي لمسته ولحظته في أشعاره.


مشاهد لا زمنية

وأشار الحيدري إلى أنّ هناك مشاهد شعرية لا زمنية وهي صالحة لكل زمان ومكان، وهي المشاهد التي ترجمت فعل البحث عن الحب عن الحقيقة وأحيانا البحث عما لا ندريه من التقاطات الشاعر واهتماماته، ولا أخفي الصعوبة التي وجدتها أحيانا في فهم بعض الألغاز وهكذا فالنص عندما يكون متحررا يكون مفخخا ومتعدد القراءات.


البحر يخفي وراءه النار

وتوقف الحيدري عند محطة ثالثة مشيرا إلى أنّ العديد من القراءات أجمعت على أن أشعار علي عبد الله خليفة محورها: النخلة، البحر، المرأة، الحب. وقد وجدت أن هذه العناصر هي عناصر حقيقية صحيح ولكنها تخفي عنصرا رئيسا وأراه حقل الجاذبية في أعماله وهو عنصر النار، وتقريبا في وشائج قليلة هي القصائد التي تخلو من مفردة النار أو الاحتراق أو الدخان وهو النار بالتضمن أو النار في صيغة مباشرة. وأرى أن حقل الجاذبية في الموضوع هو النار، وإذا كان الحب هو حقل الجاذبية في أشعاره فإن النار هيّ المنتج الموضوعي والمحرّك الدينامي للحب. وتفيدنا الدراسات الأنثربولوجية أن للنار ارتباطا كبيرا مع الفن والرقص والغناء. ويذكر الدارسون، أن الغجر في فرنسا هم موسيقيون وحدادون في نفس الوقت، والحدادة تدور وأفعال نارية وهي التي تلهمهم الموسيقى، وفي النار هنالك اتقاد، ثورة، اشتعال، احتكاك، ولا تخلو النار من الدلالات الجنسية أيضا لأن احتكاك الأجسام البشرية والأجسام الفيزيائية المادية مولدة للنار، وأظن أن هناك علاقة تلازمية بين الحب والنار في أشعار علي عبد الله خليفة. وأظن أن موضوع النار يستحق بحثا معمقا؛ لأن الأمر لا يمكن الوقوف عنده بمجرد الإشارة في قراءة سريعة وأظنه مدخلا ثريا قد يكون موصلا إلى أبعاد أخرى في هذه الأشعار لأن موضوع النار قد يخضع إلى مقاربات أنثربولوجية وسسيولوجية وفلسفية، ما يجعل من سيكلوجية الخيال سيكلوجية واضحة يفهمها الناس ويتذوقون أشعاره بها، وللنار علاقة أيضا بالنخلة التي هي من عائلة الشجرة وهنالك علاقة وطيدة بين الحب والنخلة والنار فالنار وقودها الأخشاب التي توفرها الأشجار وللأشجار بعد بشري وترجمة اجتماعية. فهذه العناصر وإن بدت أحيانا متباعدة فإن لها رابطا موضوعيا يجعل منها وحدة مندمجة. ونحن نعيش في عصر اتسم بالاندماج على مستوى التقنيات والخدمات والثقافات والإنسان ونحن نتحدث اليوم عن الإنسان المندمج في الثقافات الذي يقوم باستقبال وإرسال رسائل على أكثر من وسيط متوفر لديه مثلما تمت الإشارة سابقا.

العدد 2470 - الأربعاء 10 يونيو 2009م الموافق 16 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً