العدد 5047 - الجمعة 01 يوليو 2016م الموافق 26 رمضان 1437هـ

التحولات في مهنة الصفّار: التَنّاكَة وصناعة الدلال

ياسر الأنصاري وأستاذه علي الصفار (Levine 1989)
ياسر الأنصاري وأستاذه علي الصفار (Levine 1989)

لا يعلم على وجه الدقة منذ متى اشتهرت المنامة بكونها محلاً للبيع والشراء، إلا أنه من المعروف أن أهميتها تعاظمت مع تزايد تجارة اللؤلؤ التي وصلت لذروتها في القرن التاسع عشر. وفي بداية القرن العشرين بني ميناء المنامة (الفرضة)، وبذلك أصبح من السهل على السفن الاقتراب من شاطئ المنامة. وقد نشأ بالقرب من الفرضة عدد من الأسواق الصغيرة، أما المحلات الراقية فقد بنيت على جانبي الشارع المؤدي إلى الميناء والذي تم تسقيفه، وعرفت هذه السوق بالسوق المسقفة. ولم تكن المنامة حينها منظمة كسوق وإنما كانت عبارة عن ممرات ضيقة تنتشر على جوانبها المحلات الصغيرة، وبقيت كذلك حتى عهد قريب. وبدأت الأسواق الفرعية تتكون في تلك الممرات، ومن الأسواق التي اشتهرت منذ بداية تأسيس سوق المنامة هي تلك الأسواق المتخصصة في الحرف المحلية والتي، وإن لم يعد لها وجود، فإن أسماءها ارتبطت بأسماء الأماكن والأحياء.

وهذا لا يعني أن تاريخ تلك الحرف مرتبط بتاريخ تكوين تلك الأسواق التخصصية، بل كانت تلك الحرف منتشرة في مناطق أخرى، إلا أن سوق المنامة تحول للسوق المركزية الأساسية التي تجمع تلك الحرف. وفي أحد أزقة تلك السوق، وبالتحديد أحد الأزقة المتفرعة من السوق المسقفة، كانت هناك مجموعة من المحلات الصغيرة المتقابلة، والتي اجتمع فيها الصفارون، وكونوا لهم سوق الصفافير. هذه السوق لم يبقَ منها حالياً إلا بقايا آثار محلاتها المتهالكة. أما الصفافير فمنهم من اقتصرت مهنته على تصفير الأواني النحاسية، ومنهم من تخصص في صناعة الدلال، ومنهم من تحولوا إلى تَنّاكَة.

سوق التَنّاكَة

زاول الصفارون حرفة صناعة الأدوات النحاسية حتى انقطع وصول النحاس، وذلك خلال الحربين العالميتين الأولى ثم الثانية؛ مما اضطر الصفّار إلى استخدام ما توافر في بيئته من صفيح البراميل والصفائح المعدنية لعمل الكثير من مستلزمات الحياة اليومية في البيت البحريني القديم، ثم استمر بعد ذلك في هذا النوع الجديد من الصناعة مطوراً إنتاجه ومبتدعاً فيه، وبذلك نشأت حرفة جديدة هي حرفة التَنّاكَة (مسامح 2010).

والتَنّاك هو الذي يصنع الأدوات باستخدام التَنَك Tinplate، والتي تسمى محلياً الچينكو. والتَنَك عبارة عن صفائح من الحديد المقصدر أي الممزوج بالقصدير. هذا، وترجح عدد من المراجع أن لفظة «تنك» دخيلة من التركية، وقيل إنها من الفارسية تُنُكه بمعنى صفيحة معدن، وقد عُربت لفظة التنك حديثاً بلفظة الصفيح (عبدالرحيم 2012، ج 1، ص 627).

وقد صنع التنّاك البحريني في الماضي الصناديق والبراميل والصواني والغواري والمشاخيل والطشوت (مفردها طشت) التي تستخدم في صناعة الحلوى، ولاحقاً أصبح أكثر ربحهم من صنع وبيع «المناقيش» و «البوادقير» و «المناقل»، وهي ثلاث أدوات تستخدم في عملية تدخين القدو، وهو آلة محلية الصنع تستخدم لتدخين التبغ؛ فالمنقلة أو الدَوّه يشعل فيها الجمر، والمنقاش يستخدم لرفع الجمر، أما البادقير فهو قطعة توضع على رأس «القدو» لتحافظ على استمرارية اشتعال الجمر.

يذكر أن سوق التَنّاكَة تغيرت مواضعها، وتشتت بعدها التَنّاكَة، فمنهم من بقى في السوق القديمة، ومنهم من اندمج في سوق الحدادة التي تنقلت من مكان لآخر ثم استقرت في منطقة البرهامة. وهناك بعض الأسماء التي بقيت تمارس هذه المهنة وقد أجرت صحيفة «الوسط» لقاءات معهم، منها لقاء مع الحاج حبيب الصفار (صحيفة الوسط العدد 4186، الصادر بتاريخ 22 فبراير 2014)، والحاج عبدالكريم كويتان والحاج سعيد الصفار (صحيفة الوسط العدد 2500، الصادر بتاريخ 11 يوليو 2009).

صناعة الدلال

لقد تخصص بعض الصفافير في صناعة دلال القهوة، والتي كانت تصنع من ثلاثة معادن مختلفة وهي الصفر (النحاس الأحمر)، والنحاس الأبيض، كما كان يدخل، أحياناً، في صنعها الفضة. هذا، وقد تفنن صانع الدلال في هذه الحرفة، حيث يستخدم النقوش والزخارف المختلفة في زخرفة الدلة، وتحولت بعض الدلال لتحف فنية يقتنيها الوجهاء. ومن أنواع الدلال التي كانت تصنع في البحرين، الرسلان والقريشية.

يذكر أن الدلال المصنوعة في البحرين هي تقليد لأنواع من الدلال التي ذاع صيتها في الخليج العربي. فالأصل في دلة الرسلان أنها كانت تصنع في بلاد الشام، وهي عبارة عن دلة صفراء نحاسية، وقد سُميت نسبة إلى صانعها الذي حفر اسمه عليها، ثم أصبح الناس يسمون أية دلة صفراء بهذا الاسم (جنيدل 1428هـ، ص 100 - 101). أما القريشية، فقد كانت تصنع في مكة، وقد تميزت بالزخارف المحفورة عليها (جنيدل 1428هـ، ص 117).

استمرت مهنة صناعة الدلال، وتنقل صانعوها من سوق الصفافير التي تحولت لاحقاً لسوق التناكة، وتغير مكانها، ثم استقروا في سوق الحدادة، في موقعه الأخير في البرهامة. أما آخر صانعي الدلال في البحرين فهو ياسر الأنصاري (صحيفة الوسط العدد 2507، الصادر بتاريخ 18 يوليو 2009).

الخلاصة، أن مهنة الصفار تطورت وتغيرت عبر الزمن، فقد كان في السابق يعمل في تصنيع الأدوات النحاسية وتصفيرها، ومنهم من تخصص في صناعة الدلال وتشكيلها. وبعد توقف استيراد النحاس، اقتصر عمل الصفارين على عملية تصفير الأواني النحاسية، وتحول عدد منهم إلى تَنّاكة، وتحولت سوق الصفافير إلى سوق للتَنّاكة، التي تغير موضعها عبر الزمن، ثم دمجت مع سوق الحدادة في موقعها الأخير في البرهامة. ولسوق الحدادة قصة أخرى، سنسلط عليها الضوء في الحلقة القادمة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً