العدد 5047 - الجمعة 01 يوليو 2016م الموافق 26 رمضان 1437هـ

ما لم يكتبه حدَّاد في «ورشة الأمل» يتجلَّى في استدراج الأسئلة

«فتنة السؤال»... إنني ضد الأمل الرائج الذي هو يأس صُراح...

قاسم حداد
قاسم حداد

لا يمكن الحديث عن سيرة مُكتملة. كأن السيرة تبدأ حالما تنتهي. في «ورشة الأمل - سيرة شخصية لمدينة المحرق»، للشاعر والأديب البحريني قاسم حداد، والتي صدرت في العام 2004، ثمة جوانب من سيرة الشخص تذوب في سيرة المكان، والعكس صحيح أيضاً. وأحياناً يترك كاتب السيرة ما يظنه غير متوائم مع مسار وخط السيرة، في توجُّه ربما لاستئنافها.

كتاب «فتنة السؤال»، عبارة عن مجموعة من الحوارات مع الشاعر حدَّاد امتدت لفترات زمنية مختلفة، قام بتحريره الكاتب والصحافي المصري سيد محمود، وصدرت عن «بيت الشعر إبراهيم العريض»، التابع إلى مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، في العام 2008.

تناولت ردود حداد في الحوارات التي أجريت معه مساحات ربما لم يكتبها «نصاً» في «ورشة الأمل». من ذلك على سبيل المثال، أن حضور أمه في سيرة المكان كانت بالكاد حاضرة. كان حضور الأب أكثر تأكيداً. سيتسنى في الحوارات تلك الوقوف على جوانب من علاقة قاسم بأمه. ستتجلى صور يصوغها قاسم بكثير من الحب والحنين والحلم.

في الحوارات وقوف عميق عند مرحلة النضال السياسي، من دون أن يتورط حداد في ما تورط فيه كثيرون من تضخيم الأدوار والشطح في تصوير المعاناة. هو يقدمها هنا من حيث منظورها الجمالي وأثرها على الروح والنص والعالم والأفكار والمفاهيم. وكما هو دأبه، يبسّط العميق، ولا يتورط في ما هو دون ذلك.

عن أم طفول (موزة) والزواج من خارج الطائفة، وهنا يضعنا أمام سؤاله العميق: «أليست مصادفة موضوعية أن واحدة من بين أخطر ما يهدد مشروعنا الحضاري الذي نحلم به هي مصادفات طائفية؟».

عن مشروعية الدفاع عن اليأس، ومناهضة الأمل الرائج في عالمنا العربي. عن الكتابة... النص. عن أسمائه التي تم تبديلها، من رمضان واقتراح اسم جعفر، وصولاً إلى جاسم، وتمسكه بقاسم، وحذف «أل» التعريف في حدَّاد. لكل ذلك قصة. أمام مجموعة أفكار ورؤى، كأن حداد أراد أن يكون في مقام الراوي لها، بتلك المتعة التي يسردها، والأفكار التي تتدافع في رأسه، وفي مناخ المباغتة التي لا يخلو منها حوار.

بقيت الإشارة قبل تناول المحاور الرئيسة التي سيركِّز عليها هذا الاستعراض من خلال حوارات الكتاب، إلى المحاورين الذين شكَّلوا مادة هذا الكتاب الغنية، وهم: أحمد خضر، أحمد الواصل، أسامة الرحيمي، إسكندر حبش، بهية مارديني، جمال الغيطاني، جعفر عمران، محمد البنكي، محمد طعيمة، محمد صلاح الحربي، موسى برهومة، حسن عبدالموجود، حسونة المصباحي، رولا قباني، زينب عساف، سامر أبوهواش، سامي الفليِّح، سلام سرحان، سيد محمود، عبده وازن، عبدالحميد المحادين، عبداللطيف الجعفري، عبدالله السفر، عبدالله خليفة، عدنان حسين أحمد، عزت القمحاوي، نوري الجرَّاح، ووليد معماري.

أطياف الأم... حضوراتها

من بين الأسئلة التي تضمنتها تلك الحوارات، سؤال توجَّه به الناقد والكاتب البحريني الراحل محمد البنكي، نحذف منه تصرفاً ما ورد فيه من إسهاب، دخولاً إلى مرمى السؤال، وتلخَّص في «(...) لنتحدث عن الوالدة، الأم، أطيافها وحضوراتها، ولماذا تتخذ هذه الهيئة التي تقطر بالحنان والدعة أمام قسوة الأب في (ورشة الأمل)، دعنا نفتح على تلابس الواقعي بالمتخيل، على والدة قاسم حداد والأم في كونه الشعري في آن واحد».

لا يستسلم حدَّاد بحكم غنى التجربة وثرائها، وتعدُّد فضاءاتها، لأنماط من التسجيل فيما يتذكَّر؛ إذ يُدخل كل ذلك في فضاء لغوي شعري، بحيث لا تكاد تميز بين التجربة الفردية، وهو يطلقها في مدى إنساني، يكاد يقارب تجارب هنا وهناك. في ما يسرده، يقوله، يجيب عليه، استثارة من نوع ما؛ أو لنكن أكثر تحديداً: استفزازاً لنمطين ممن مروا بالتجربة: نمط المغالي في الحال الفردية، بحيث لا تسمع ولا تتلقى سوى «الأنا»، وكأنها مركز العالم؛ بل هي العالم في صورة أو أخرى، أو ذلك الذي يسعى ما استطاع أن يتبرَّأ من تاريخ نضالي، ربما وجد فيه خيبته وخرابه وخذلانه بالضرورة. هو يتذكَّر ويعيش ما حدث بعيداً عن النمطين. لذلك هو يكتب بعيداً عنهما، بتماسِّه مع اللغة التي يراها «القبَّان»، وقدرة تلك اللغة على تقديم العالم بصورة أفضل، وإن لم تخلُ تلك الصورة من البشاعة.

صورة الأم التي تبدو وهي منهمكة بصمتها أو عزلتها. بسيول من المرارات التي ربما لا يتيح البيت إمكانات لكي تُسرد.

«(...) كانت والدتي تظل دائماً في ظلال الوالد لا في مواجهته، خصوصاً أن جدتي هي من كان يقف في مواجهة الوالد، فحضور جدتي كان أقوى من حضوره، فمكانتها كانت قيادية ومركزية قياساً لوالدي، على رغم كونه أكبر أبنائها. وقد احتفظت والدتي لنفسها أبداً بالمكان الحميم الأكثر خفوتاً، وكان والدي يدلِّلها كثيراً، ربما لأنه تزوجها وهي في سن صغيرة بالنسبة إليه، حتى إنه لا يرد لها طلباً، إذا طلبت، وهي المرأة غير المتطلِّبة. وأذكر أن أبي غالباً ما يناديها بـ (بت حسن) في الحالات الطبيعية، وعندما نسمعه يناديها باسمها المجرد: خديجة، سنشعر بأنه في مزاجه الرائق للغزل على طريقته، كما لو أنه يريد أن يبعث لزوجته الرسائل الخاصة».

الأم التي على شفير البكاء

لا توجد أمهات مستقرات حين يتعلق الأمر بانخراط أبنائهن في أنشطة سياسية، وضمن وضع لا يُسمح فيه للإنسان بأن يخرج على النص المُعدِّ والمكتوب له. ثمة مسافة يتركها لنا حداد، ربما هي تفاصيل التفاصيل في علاقته بأمه. أن نتخيل ما يبدو أنه تجاوزه، مكتفياً بما يبدو السطح؛ علّ في ذلك تفاصيل تبدو أكثر إيلاماً، وعلّها عصية على الخروج من خزانة أسرار البيت، على رغم أنه لا يوحي لنا بذلك، وهو ما يحتاج براعة وسيطرة على العاطفة والأعصاب التي لم يعدَمها حداد.

«عندما انخرطت في النشاط السياسي، كانت الوالدة تكتنف حركتي بالمداراة وتأمين السلامة في البيت والعائلة، فقد جهدت لتخفي انهماكاتي عن الوالد. ولم يكن منبع مثل ذلك السلوك الخوف أو عدم القناعة، بقدر ما كانت راغبة في تفادي ما سيسببه الأمر من قلق لوالدي، وهو الذي لا ينقصه القلق، لكنه سرعان ما عرف بالأمر بعد ذلك، وجرت تعاملاته معي بتفهم وإيجابية وبقدر من الفخر أيضاً».

في واقع مليء بتحمُّل المسئولية بشكل مبكِّر، يظل الماسك بالعناء هو النموذج الذي يراد لقاسم أن يكون على التصاق به. هو ما أسماه قاسم «التشبُّه»، وذلك التعلق بالأب خلق بالضرورة تعلُّقاً أقل بالأم. هل هو تعلق أقل؟ ربما هو التعلق بالعناء وقتها، ذلك الذي حدَّ من التعلق بالأم.

«كانت الوالدة تبادر إلى تلبية احتياجاتي، ويبدو أن رغبتي كطفل، في التشبُّه بالوالد، قد جعلتني أتعلق بوالدي أكثر من والدتي، حيث عنصر السعي للعمل، ومعطيات الحياة العملية هي التي ربطتني بالوالد أكثر (...)».

الأم التي على شفير البكاء، بحسب تعبيره، تركت أثرها في المخزون العاطفي الذي سيخرج به حداد على العالم. المخزون الذي سيستطيع به إحداث توازنات تتطلَّبها أكثر من مصادفات ومصادمات في الوقت نفسه.

«ما أذكره عنها أيضاً أنها كانت شخصية انفعالية في طفولتنا، دائماً على شفير البكاء لأي سبب من الأسباب. لربما تأثرتُ نفسي بهذه الطبيعة، وربما شحذت جانباً من العاطفة الشخصية في طفولتي».

الشرط العاطفي... السلوك الحضاري

من منا لم يوضع أمام شرط عاطفي؟ من منا لم يكن نهباً للمصادفات، مع فارق أي منا في قدرته على تحويل تلك المصادفات إلى انتصار على ما تدسّه الحياة من خيبات وانهيارات. ليست الحياة كحياة، بقدر ما هم بشر الحياة الذين ينتجون كل تلك الخيبات ويحضّرون كل تلك الانهيارات.

من بين تلك المصادفات الموضوعية ألَّا خيار للإنسان في أن يولد أبيض أو أسود، مسلماً سنياً أو مسلماً شيعياً، أو مسيحياً... أن يبدأ ويقرر الإنسان من هو وما الذي يريد أن يكون عليه. ذلك هو جانب من الانتصار وليس الانتصار كله.

في سؤال لمعد ومحرر الكتاب، سيد محمود، نصطفي منه ما يقود إلى شهادة/ رد حدّاد عليه «(...) عن تجربة الحب ثم الزواج من خارج الطائفة التي تنتمي إليها: كيف بدات تجربة الحب، وهل دفعت ثمن خيارك في الزواج على المستوى الاجتماعي، أم أن أفقك التقدمي تجاوز ذلك».

أجاب حداد فيما أجاب بالقول: «(...) لم يكن أحد يحتاج، في حينه، إلى أن يكون يسارياً لكي يتمتع بخياراته (عبر الطائفية)، فالشرط العاطفي يجعل السلوك حضارياً بامتياز، ويجعل حياتنا جديرة بالدفاع عنها معاً. زوجتي موزة الشملان (أم طفول) من منطقة أم الحصم في المنامة، لكنني رأيتها في المرة الأولى في المحرق، أثناء أحداث الانتفاضة الشعبية في العام 1965، كانت قادمة في مهمة تنظيمية (في حركة القوميين العرب)، لتنقل المراسلات بين المحرق والمنامة، يومها كان ابن عمتها أحمد الشملان عندي في البيت، وهي قادمة تحمل رسالة إليه، بعد أن غادرت، سألت أحمد الشملان عن الفتاة، وتكفل الوقت بالباقي».

في التفاصيل تلك حياة أخرى. ربما ترسم طرقاً لحيوات مازالت تذهب في غيِّ الانتماءات التي لا دخل لكثيرين بها، ولم تتم استشارتهم بشأنها.

المصادفات الموضوعية

الكاتب والباحث والأكاديمي عبدالحميد المحادين، وأحد الذين قُدِّر لهم أن يكونوا من أساتذة حداد يوم كان طالباً في المرحلة الابتدائية، كان ممن ساهموا في مجموعة الحوارات تلك، وقد جاء سؤاله في الصيغة الآتية «في حياة الإنسان مصادفات تشبه الموعد، ما هو التفسير الفني لذلك، وما المصادفات التي هندستْ مواعيدك؟».

يقف بشيء من التفصيل البارع والجميل عند اللحظات/ المصادفات الموضوعية؛ بحسب اقتراح السرياليين. ولعل الزواج من خارج الطائفة أحد الموضوعات التي تجد لها من الاستنفار لدى ضواري الطائفة هنا وهناك، بحيث تكاد تصبح مسألة تهديد للوجود! في تعامله مع ما يبدو إشكالاً تتبدّى خيارات حداد الصعبة والعميقة والمليئة بالكثير من التحديات، وربما التهديدات. مجتمعاتنا بطبيعتها تستدعي كل مخزون التزمت لديها أمام مصادفات أو جرأة كتلك. لكن المحرق بطبيعة نفَسها النضالي والعروبي احتفظت للغالبية بتلك المرونة العاقلة التي لا تتعاطى مع مسائل وقضايا كتلك باعتبارها تهديداً للوجود؛ بل العكس، فيها تحصين لذلك الوجود، وإثراء له وتعزيز التنوع والتعدد فيه.

نقتطف جوانب رئيسة من رد حداد على السؤال، وهي جوانب تنتمي إلى صلب السؤال؛ إذ قال: «أحب دائماً أن أطلق على مثل هذه اللحظات (المصادفات الموضوعية)، كما يقترح السرياليون؛ وخصوصاً إذا عرفت أنني أجد في حياتنا من الفعل السريالي الكثير مما لا ينتبه له الكثيرون». موضحاً «ولكي أسوق مثلاً طريفاً، وعميق الدلالة، فإن المرء في المجتمع العربي لا يختار دينه ولا مذهبه بحريته (...) كوني شيعياً، لم يكن هذا الأمر يعني شيئاً طوال الوقت، بل إنه بالنسبة إليَّ لم يمثل شيئاً يستدعي الانتباه، إلى أن حانت اللحظة ووجدت نفسي عاشقاً لفتاة سنية، مما استدعى استنفارات من أطراف مختلفة، لكن من غير أن تجعلني الاستنفارات تلك أتبادل معها الموقف نفسه، ففي وقت الحب لا تجدي المجابهات»، مضيفاً في موقع آخر، وضمن السياق «وما دامت لعبة المصادفات قد بدأت فإنني سأذهب إلى المغامرة، وهي المغامرة التي لم تتوقف عن إدهاشي ودفعي إلى المتعة، حتى هذه اللحظة فيما ألاعب حفيدتي أمينة التي منحتني إياها ابنتي طفول وزوجها صلاح، الذي كان (بمحض المصادفة الموضوعية أيضاً) سنياً هو الآخر».

وعن تلك المصادفة الموضوعية التي تحمل درسها العميق يتساءل حداد «أليست مصادفة موضوعية أن واحدة من بين أخطر ما يهدد مشروعنا الحضاري الذي نحلم به هي مصادفات طائفية، يجري إعادة إنتاجها بين وقت وآخر بوهم أيديولوجي، متعدد الوسائط المتخلفة، غائباً عن بالهم أن المجتمع البحريني، طوال تاريخه الحديث، كان قادراً على طرد أية محاولة: داخلية أم خارجية، لإنعاش الطائفية أو استغلالها، بسبب الطبيعة الحضارية التي يتميز بها هذا المجتمع، الذي ظل يشكل وحدة إنسانية عبر عصوره. لو أننا تعاملنا مع الظاهرة المذهبية بوصفها مصادفات تحدث خارج إرادة الشخص، وأنها من ملامح التعدد الثقافي والطاقة الروحية للإنسان ليس أكثر ولا أقل، فسوف نتمكن من تفادي أية تعثرات مفتعلة تتصل بهذه المسألة».

تلك الأسئلة/ التساؤلات وغيرها تمس جوهر الوجود. وجود كل واحد منا. النظر العميق في مجموعة الرؤى التي يطرحها حداد في هذا المفصل من السؤال وغيره المفاصل، تظل بمنأى عن تناولها المباشر، وبتلك الصورة الصادقة في حساسيتها، والاقتراب من الإشكالات التي يمكن أن تتولَّد عنها، في حال تم السكوت عنها، ومواراتها، وتأبيد تأجيلها.

مصادفات تعدُّد التسمية

قلت، تختلط سيرة حداد بسيرة المكان، حتى ليكاد يكمل أحدهما الآخر، إلا أنه في «ورشة الأمل»، سيرة المكان/ المحرق، ظلت سيرته مواراة هناك، فيما المكان يتصدّر المشهد. المكان بطبيعة الحال ببشره الذين ارتبط بهم حداد، والذين يتذكرهم. أتاحت مثل هذه الحوارات، وأتاح هذا الكتاب خصوصاً فرصة للملمة وربط ما لم تتم كتابته هناك، وقوفاً على تفاصيل ربما أكثرنا يعرف عنها للمرة الأولى. يجيب هنا بكثير من التفصيل، وبشكل باهر.

«يوم ولدت في أواخر الأربعينات، في الأول من شهر رمضان، كان والدي غائباً عن البيت، وأظن أنه كان في رحلة الغوص. وكان الجميع يتوقع أن والدي هو من سيختار اسم الطفل الجديد. وكانت جدتي آنذاك هي مايسترو العائلة، فاقترحت اسماً مؤقتاً هو (رمضان) تيمناً بكوني قد ولدت في غرة الشهر الكريم في ذلك العام. وبعد أن عاد والدي من الغوص اقترح تسميتي (جاسم) غير أن معظم الأهل والعائلة والجيران في الحي وجدوا في استخدام الاسم الأول طرافة ما متشبثين بذلك الطفل الذي أحبوه، أو ربما بعضهم قد اعتاد على اسم رمضان، فراحوا ينادونني به. واستمرت مناداتي بالاسمين معاً سنوات الطفولة كلها تقريباً، حتى أنني لا أزال أتذكر أن إحدى النساء لم تكن تقبل مناداتي بغير اسم (رمضان) لإيمانها بعدم جواز تفادي ذكر رمضان المبارك. وقيل إن سبب تعصّب بعضهم لاسمي الأول هو كونه الاسم الذي حفظ لي حياتي ونجّاني من موت متوقع، بعد أن كانت أمي قد فقدت (أسقطت) أكثر من طفل قبلي، وهي الحكاية التي سهوت عن ذكرها قبل قليل. فقد كانت والدتي تنوي في كل مرة إطلاق اسم (جعفر) على مولودها إذا كان صبياً، فيحدث أن يسقط الجنين أو يموت المولود. مما حدا ببعض (المطاوعة وقراء الطالع) أن يقترح على العائلة عدم التمسك بذلك الاسم، لاعتقاد بأن (جعفر، يعفر) بمعنى أنه يرفض العيش. وهذا يضيف لأسمائي اسماً ثالثاً حتى تلك اللحظة».

مستطرداً في تعدد الأسماء، بعد أن دخل عالم النشر في المنابر المتاحة وقتها، بالقول: «ولكي تكتمل مصادفات تعدد التسمية، فإنني عندما بدأت بالكتابة الأدبية في باب القراء في صحيفة (الأضواء) البحرينية منتصف الستينات، لم أستخدم اسم جاسم محمد حمد الحداد، إذ كنت أيامها مولعاً بالشاعر الجزائري المعروف مالك حداد، الذي قرأت كتابه الوحيد المترجم عن الفرنسية، (الشقاء في خطر). فوجدت نفسي أتخلص من حرفيّ التعريف في اسم العائلة وأضع حداد مجرداً، ثم أختار اسم قاسم، لكوني، من جهة أخرى، مرتبطاً، في اللاوعي، باسم القاسم بن الحسن أحد الشباب الذين قاتلوا مع الحسين في كربلاء، والذي استشهد يوم عرسه كما تقول الحكاية. وكنت في الخامسة من عمري عندما اختاروني لأقوم بدور القاسم، في حسينية النساء في البيت، في زفّته قبل ذهابه الى المعركة واستشهاده في يوم الثامن من المحرم».

الأخاديد التي حفرت في الغياب

يسأل البنكي عن تجربة الاعتقال، وما حدث في الخارج. ما حدث للعائلة الصغيرة: الزوجة: موزة، والطفلين: طفول ومحمد. المكان هناك... الزمن في الداخل. تصور المكان في الخارج... تصور الزمن في الخارج. تحدث عن «ترميم الأخاديد التي حفرت في الغياب» بالقول: «لا مناص من القول بأن التجربة ثرية بالمعنى الشعري، لكنها عنيفة، وعنيفة جداً بالمعنى الواقعي، أنت كأب مفصول عن أطفالك. كيف ترمِّم الأخاديد الشعورية التي حفرت في الغياب؟».

من بين ما أجاب به حداد «ابني محمد ولد بعد اعتقالي بأشهر قليلة، ودرج في طفولته يبحث عني، كان يتلفَّت في الشارع حائراً يتطلع في الوجوه ولا يكف عن السؤال: اين أبي؟ يتساءل ناقلاً، إشارته بالسبَّابة بين الرجال في الطرقات، وحين كانت زوجتي تريه صورتي الفوتوغرافية كان يرفض ذلك ويقول لها: لا أريد صورة... أريد أبي حقيقة».

أما عن طفول فيقول: «عاشت كل اعتقالاتي، وكانت في الثانية من عمرها عندما اعتقلت للمرة الثانية لمدة أربع سنوات متواصلة. (...) هذا أنتج لدي معاناة لا أستطيع وصفها، كان شغلي الشاغل هو البحث في كيفية العمل على ردم الفجوة التي حفرتها فترة الانقطاع في نفوسنا وفي السياق النفسي الذي عشناه. كيف تجعل الطفل الذي عاش هذه المعاناة يستوعب حقيقة الأب ككائن مقهور، ثم يتبادل معه العواطف».

مضيفاً «ربما لهذا السبب صرت أميل نحو التمسك بالبقاء في البيت أكثر من الغياب خارجه. صرت (بيتوتياً) بعد خروجي من الاعتقال».

نقد الأمل... تمجيد اليأس

في سؤال لعبدالله سفر، نصه «لماذا نقد الأمل وتمجيد اليأس؟». أختار هنا جانباً من الإجابة، بما يشكِّل تصور حداد، بل تعاطيه مع مفهومي الأمل واليأس «يكاد اليأس يكون هو (أملنا) الوحيد في هذه اللحظة من تاريخنا الإنساني. ثمة حالات متقاطعة لمفهوم الأمل واليأس الذي أصدر عنه أو أذهب إليه. إنني (نثراً) ضد الأمل الرائج الذي هو يأس صراح يريدون لنا أن نعتبره مستقبلاً مفتوح الأشداق مثل وحش. و (شعراً) أرى أن من حقنا الدفاع عن حرية اليأس في هذا الواقع. إنهم يخشون يأسنا لأنه الفضيحة الكونية لكل مشاريع (أملهم)، وفي الشعر يشكل اليأس الزهرة التي ينبغي أن نصغي لكلامها العميق وهي تنمو وتزدهر بصعوبة مختلجة بكل أحلامنا».

الَّا يملكك شيء

في سؤال للناقد الراحل محمد البنكي «هل الكتابة عندك وسيلة لغاية تحققها بطريقة ما تحت ذريعة إنتاج النصوص؟».

كان من بين ما أجاب عنه في هذا الصدد «إن كانت الكتابة وسيلة لغايات أخرى فإنها ستنتهي. الكتابة لديَّ، بعد كل هذه التجارب، هي أمر داخلي حميم، وقد حصَّنني ذلك في المعتقل، ليس لديَّ هدف مادي أسعى إلى تحقيقه عبر ما أكتب. هذا، على الأقل، يجعلني مستقراً، مطمئناً وصريحاً، لأنني لا أسعى إلى التكسُّب بما أكتب، تماماً كما هو حال المتصوف حين سألوه عن التصوف فقال: هو ألاَّ تملك شيئاً ولا يملكك شيء».

ورداً على سؤال طرحه الشاعر والروائي اللبناني عبده وازن «ماذا تحدثنا عن فضاء اللغة هذا؟ عن النص الذي تسميه (شهوة اللغة)؟»،

أجاب: «دائماً كنت أشعر أن ما تبقَّى من صنيع الشاعر، بعد كل شيء، هو اللغة. اللغة بمعنى الروح الخاص بالشاعر في هذا الجسد اللغوي الحي الممتد عبر الكتابة المترامية الأطراف. فما يميِّز الشاعر عن غيره هو حساسيته التي يستطيع أن يصوغها عبر تجاربه المختلفة، قدرته على اقتراح اجتهاداته الخاصة في ممارسته حرية الخلق في لحظة اللغة وهي تولد في هذا النص أو ذاك».

صبحي حديدي: أنماط قرَّاء قاسم حداد

الكتاب قدَّم له الناقد المعروف صبحي حديدي، والذي رأى في حواراته فرادة لأسباب منها، أن صيغة الكتاب لا تقوم على تجميع عدد من الحوارات مع المؤلف، بقدر ما يدير الكتاب حوارات متبادلة، بعيدة عن صيغة سائل ومجيب. واعتماد الكتاب على انتخاب بالغ الدقة لعدد من الأسئلة التي جاءت في حوارات متغايرة السياقات، بالعمل على انتقائها وتبويبها، ضمن منهجية تكاملية. والتعددية في أصوات محاوري قاسم حداد، على أسس وظيفية، فهنالك الشاعر والروائي والباحث والمفكر وكذلك الصحافي.

محمد حداد
محمد حداد




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً