اختار البريطانيون، في استفتاء عام الخروج من الاتحاد الأوروبي. وذلك يعني في أبسط أبجدياته، أن القوة الاقتصادية الثالثة في القارة الأوروبية، لم تعد جزءاً من وحدة أوروبا. وعلى رغم أن الوقت لايزال مبكراً للتنبؤ بالأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لهذا الحدث، لكن كثيراً من المؤشرات تجعلنا نتجرأ على الخوض فيها من غير تردد.
فالحدث بحد ذاته، يمثل شرخاً كبيراً، في حلم كبير ظل يراود الأوروبيين، لأكثر من سبعة قرون، منذ أيام الحروب الصليبية، وتغنوا به، ومثّل تحقيقه بالنسبة إليهم، وللعالم ما هو أقرب إلى المعجزة. وقد جعل قيام الاتحاد الأوروبي، من القارة الأوروبية القوة الاقتصادية الثانية عالميّاً، بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وبالإمكان الآن، تصور ماذا يعني انهيار هذا الحلم بالنسبة إلى الأوروبيين، الذين راهنوا على استمرار الوحدة، على رغم التحديات التي واجهها الاتحاد، منذ تأسيسه في مطالع السبعينات من القرن الماضي. فالولادة لم تكن يسيرة أبداً، ولم تكن الطريق التي مضت عليها سهلة.
ولعلَّ الخروج البريطاني من الاتحاد، هو نتاج تراكم مرير للتداعيات التي مرَّ بها عبر مسيرته، التي امتدت قرابة نصف قرن من الزمن. فهذه الوحدة لم تنشأ بين ليلة وضحاها، ولم يعززها نص فكري متكامل، يملك قابلية التطبيق على أرض الواقع. لقد تبلور المشروع تدريجيّاً، وانتقل من صيغة سوق أوروبية مشتركة، بدأ التهيؤ لها إثر نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، وباتت أمراً واقعاً في بداية الستينات، حيث كانت فرنسا وألمانيا ركنيها الأساسيين.
ولا شك في أن النظر إلى الخريطة السياسية للقارة الأوروبية، يجلي بعض الصعوبات التي واجهتها لحظة التأسيس للاتحاد. فالدول الأوروبية، تمثل كل منها، في الغالب أمة قائمة بذاتها، لها لغتها وتاريخها وثقافتها الخاصة. ويعاني بعضها مشاكل إثنية خاصة في الداخل، حيث تطالب أقليات قومية بالاستقلال، كما هو الحال في إسبانيا، مع الباسك، وبريطانيا مع أسكتلندا وإيرلندا.
وقد عاشت القارة الأوروبية حروباً ضارية بين دولها، امتدت عشرات السنين. وفي القرن الماضي، شهدت القارة حربين عالميتين مدمرتين، حصدت الأخيرة منهما أكثر من سبعين مليون قتيل، وعشرات أمثالهم من الجرحى.
علاوة على ذلك، فإن البنية الهيكلية لهذه الدول وعقائدها السياسية، وبشكل أكثر تحديداً دول أوروبا الشرقية، ظلت مختلفة جذريّاً إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، ولم تكن أوضاعهم الاقتصادية بأحسن حال. وحين جرى إدماجهم بالاتحاد الأوروبي، لم يضع صانعو القرار، في بروكسل، حسابات الأرباح والخسائر. فقد كانوا مدفوعين بطبيعة اللحظة وتجاذباتها، وبمهرجان الفرح وموسم نهاية التاريخ، الذي ساد عموم القارة الأوروبية، احتفاء بسقوط الإمبراطورية الشيوعية.
لقد فرضت الأحداث المتلاحقة، وانضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد، الذي تأسس العام 1973، بتسعة أعضاء، ليصل عبر محطات عدة إلى خمسة وعشرين عضواً العام 2004، على مركز الاتحاد أن يعيد صياغة تركيبته عند انضمام عضو جديد، أخذاً في الاعتبار، إمكانات العضو الوافد، والمساهمة في حل أزماته الاقتصادية، ومعالجة الإشكاليات الناجمة عن تحول البلدان الاشتراكية إلى الطريق الديمقراطي، ودمجها بمسيرة الاتحاد.
ليس ذلك فحسب، بل إن على قيادة الاتحاد أن تعيد النظر في كل مرة يلتحق بها عضو جديد في آلية صنع قراراتها، ونسبة تمثيل كل عضو داخل الاتحاد.
وحين نعود إلى الفريق المؤسس، نرى أن الدور الأساس كان، ولايزال لفرنسا وألمانيا. وهما أمتان عظيمتان، عاشتا حروباً ضارية في مواجهة بعضهما بعضاً، انتهت الحرب الأخيرة، باحتلال ألمانيا النازية لفرنسا. ويمكن أن نتصور حجم الصعوبات التي واجهها الاتحاد، حين نطل على مستوى اعتداد كل منهما بتاريخه وثقافته وأمجاده.
فالفرنسيون، هم من أكثر شعوب أوروبا عراقة، واعتداداً بلغتهم وثقافتهم. وقد وضعوا كثيراً من المكابح، للحيلولة دون اختراق أفلام هوليوود لثقافتهم، وحددوا لها ساعات معدودة، في إعلامهم المرئي. أما الألمان، فيفاخرون بأنهم من جنس آري، متفوق على كل الشعوب. وينطلقون من داروينية سياسية، تجاه جميع شعوب الأرض.
وليس من شك، في أن التحاق بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، العام 1974م، أضاف إشكالات جديدة لبنيته. لقد نظر الأوروبيون باستمرار إلى بريطانيا كامتداد للسياسة الأميركية، وأنها تابعة اقتصاديا لليانكي القابع خلف المحيط. وعلى هذا الأساس عارض الرئيس الفرنسي شارل ديغول، ذو النزعة القومية الواضحة، التحاق بريطانيا بالسوق الأوروبية المشتركة. ولم يتمكن البريطانيون من الدخول إلى السوق، إلا بعد مغادرة ديغول موقعه الرئاسي في قصر الإليزيه. لقد مثلت علاقة بريطانيا بالولايات المتحدة، إشكالية دائمة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فهناك ما يشبه الاندماج التام في الثقافة البريطانية والأميركية. وصناع السياسة الأميركية هم في الغالب من البروتستانت الذين غادروا إنجلترا إثر فشل الثورة الإنجليزية، التي قادها المتطهرون، بزعامة أوليفر كروميل.
ويسجل المهتمون بالتاريخ الأميركي أن جميع رؤساء الولايات المتحدة، باستثناء الكاثوليكي جون فرانكلين كنيدي هم من المسيحيين البروتستانت. وينحدر معظمهم من الأسلاف الذين هربوا من الاضطهاد الكاثوليكي، بعد فشل ثورة المتطهرين. وقد ظل هؤلاء وأحفادهم أمناء لإرثهم البريطاني، حتى يومنا هذا.
في هذا السياق، يأتي انفصال بريطانيا، عن الاتحاد الأوروبي، تماهياً مع بنية نفسية خاصة، وتجانساً مع انتماء للثقافة الأنجلو سكسونية.
تلك مقدمة لازمة لسلسلة من الأحاديث، سننشرها تباعاً، بإذن الله، عن تداعيات الخروج البريطاني من الاتحاد على القارة الأوروبية، وعلى العالم بأسره.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5046 - الخميس 30 يونيو 2016م الموافق 25 رمضان 1437هـ