في السابع والعشرين من ديسمبر 2007، كان الزعيم الكوبي فيديل كاسترو قد بلغ من العمر 81 عاماً وأربعة أشهر. في ذلك اليوم، كتبتُ مقالاً فيه ما يشبه الطُرفة، فقد أشرتُ إلى ما ذَكَرَته إحدى الصحف آنذاك من أن مسئولين إيرانيين وبفعل علاقتهم القوية بكاسترو، عرضوا عليه ترك الشيوعية والدخول في الإسلام، أو على الأقل العودة إلى المسيحية التي تعلَّم مبادئها وتعاليمها في صباه بين عامَيْ 1933 و1944، أي عندما كان بين السابعة والثامنة عشرة من العمر.
الخبر، لم يؤكّده أيّ مسئول إيراني حينها، لكنه كُتِبَ ونُشِر. والذي يبدو أن تلك الدعوة (وإن صَدَقت) فإن كاسترو لم يَحْفَل بها، حيث لم يتغيَّر شيء في حياته. فلم يُلحَظ عليه مسحة تديُّن ولا ظهَرَ ممارِساً للعبادات. أما لحيته المتدليّة فقد اعتاد على إطلاقها منذ أن كان شاباً، والتي حاولتْ الاستخبارات الأميركية أن تجعلها تتساقط حينما خطّطت لوضع ملح الثاليوم في حذائه، خلال عملية سريَّة أجازها جون كيندي للإطاحة بنظام كاسترو في الستينيات من القرن الماضي.
إذاً، لم يدخل كاسترو الإسلام ولم يرجع إلى المسيحية وبقي على حاله، لكنه وفي نفس الوقت ظلَّ وفياً لمبادئ أخرى لها صبغة إنسانية عامة. إحدى أهم تلك المبادئ هي مساعدته للفقراء عبر توفير خدمات صحية لهم، ليس في كوبا فقط، بل في دول عدَّة بأميركا اللاتينية وإفريقيا. وللعلم فإن كوبا (الفقيرة) تمتلك أمهر أطباء العالم وفي أدق المجالات، كالسرطان وشبكيَّة العَيْن والتخدير والعناية المركزة وجراحة المخ والأعصاب والأطفال حديثي الولادة وغيرها من التخصصات النادرة.
وقد عَمِلَ الكثير من الأطباء الكوبيين كجرّاحين لرؤساء وزعماء دول مثل البروفيسور روديريجو كامبرز، أحد أشهر جرَّاحِي العظام في العالم. لذلك نرى أن متوسط أعمار الكوبيين مساوٍ لمثيله في الولايات المتحدة الأميركية، أقوى وأغنى دولة في العالم. أما نسبة الوفيات بين الأطفال لديهم فهي الأقل، نتيجةً لتلك الرعاية الصحية. فكوبا لديها قرابة النصف مليون طبيب، وهي من أفضل النسب في العالم مقارنةً بعدد السكان حسب تقارير الأمم المتحدة؛ بل تزيد عن أوروبا بنسبة الضعف حسب منظمة الصحة العالمية.
ولكي ندرك ما تمتلكه كوبا من كوادر طبية ممتازة على رغم الحصار الخانق عليها منذ أزيد من نصف قرن، نستحضر ما كانت تفعله الولايات المتحدة الأميركية طيلة الخمسين سنة الماضية، حيث كانت تُشجِّع الأطباء الكوبيين سواءً من داخل كوبا أو أولئك العاملين في دول ثالثة على الانشقاق، الأمر الذي وصفته هافانا بالممارسة «البغيضة لاستنزاف العقول»، وهو فعلاً كذلك.
لقد حاول الأميركيون مراقبة 50 ألف طبيب كوبي منتشرين حول العالم ضمن عشرات البرامج الصحية في الأرياف والأدغال والمدن، وإغرائهم كي يتركوا مكانهم ويأتوا إلى الولايات المتحدة ليتقاضوا رواتب بآلاف الدولارات، لكن النتيجة هي استجابة 3.1 في المئة فقط من ذلك العدد.
أعود إلى مسألة المساعي الكوبية في تصدير الأطباء إلى دول عدة في الجوار وأبعد من الجوار. ففي الثامن عشر من يونيو الجاري، قرأت خبراً يفيد بأن الأطباء الكوبيين العاملين في بوليفيا وعددهم مئة طبيب، أقاموا معرضاً من أجل الصحة في ساحة بلدية فاجيغراندي البوليفية، قدّموا فيه مساعدةً طبيةً مجانيةً للناس في نحو 20 تخصصاً، بما في ذلك طب الأسنان والعيون.
وعند مماثلة ذلك الخبر من قِبَل الكوبيين في دول أخرى، سنجد أن هافانا باتت أحد أهم الدول الراعية لمثل هذه البرامج الصحية العابرة للحدود. لقد أرسلوا أطباءهم إلى الدومينيكان وغواتيمالا وهاييتي وهندوراس ونيكاراغوا بعد إعصارَيْن مدمِّرَين لمعالجة المصابين والمرضى مجاناً. ليس ذلك فحسب بل هم يُعلِّمون اليوم 9362 طالباً من 100 بلد في تخصصات طبية في جامعاتهم بمِنَح دراسية كاملة ومرتّب شهري. لست أنا مَنْ يقول ذلك بل منظمة الصحة العالمية أيضاً.
نعم هناك أطباء تنتدبهم الحكومة الكوبية إلى دول كفنزويلا والبرازيل، وفق نظام تعادلي، بحيث تضمن لهم رواتبهم في كوبا، وتكاليف إقامتهم في الغربة، فيما يتم حساب الفارق في راتبهم الجديد لصالح هافانا (3 آلاف يورو في البرازيل مثلاً) على شكل مشتقات نفطية أو مشاريع اقتصادية. وتجني هافانا نظير ذلك النظام قرابة الثمانية مليارات دولار كعائدات لخزينة الدولة.
لكن ما يهمّ في المسألة، أن هناك برامج صحية أخرى مجانية. كذلك وفي الجانب الآخر يُرسلون أطباءهم إلى مناطق خطيرة تنتشر فيها أمراض فتاكة كالكوليرا، مقابل مبالغ لا تساوي ما يمتلكونه من خبرة كبيرة، إذْ لا يزيد ما يتقاضونه عن الـ 500 دولار، لكنهم يعملون بلا كلل. لقد قالت منظمة الصحة العالمية شهادتها في ذلك، وهي أن 63 مليون فقير استفاد من برامج الأطباء الكوبيين ممن كانوا معرّضين لخطر الأمراض المعدية في المناطق المعدمة حول العالم كالأمازون، من بينهم قبائل الهنود الحمر.
في كل الأحوال، هذه حَسَنَةٌ يجب أن تُذكَر للكوبيين، الذين باتوا يُحرجون جوارهم الرأسمالي في «شعورهم» الحقيقي بالإنسان الذي لطالما ادَّعى ذلك الجوار بأنه محل اهتمامه، لكن ما تبيّن أنه مجرّد «شعار» لا أكثر. وما أكبر الفجوة ما بين الشعار والشعور.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5045 - الأربعاء 29 يونيو 2016م الموافق 24 رمضان 1437هـ
الشئ الملفت كذلك أنهم لم يكتفوا فقط بتوفير الخدمات الصحية (المجانية) لمواطنيهم بل سعوا لمساعدة شعوباً من عدة بلدان قدر ما يستطيعون
فعلاً حسنة تحسب لهم و بلا منة
فالفارق شاسع بين الشعار و الشعور
الشعار علامة ، اسم ، اشارة ... للشعور ، للباطن ، للمبادئ ... حينما تكون الباطن خاوية ، خالية ، فارغة ... طبل ... فالشعار لا تثمر ، لا تعطي ، لا تشفي ، لا تنتج ...