هناك بين البشر من لا يعنيهم في كثيرٍ أو قليل أن يكونوا منبوذين. يراكمون أسباب النبذ. يعطون الذرائع لذلك. وكأنهم بذلك يوجهون دعوات مفتوحة إلى البشر من حولهم كي يضعوهم على قائمة النبذ والإقصاء. هل هم في انسجام مع أنفسهم أساساً كي يكونوا منسجمين مع العالم من حولهم؟ العالم الذي عملوا على أن ينبذهم ويقصيهم؟
ماذا يعني أن تكون منبوذا أساساً؟ ببسيط العبارة: أن تكون خارج منظومة المجتمع البشري مهما كان محدوداً. قد يكون مجتمعك البشري أشخاصاً ثلاثة أو خمسة أو خمسين أو ألفاً. ولن يكون اجتماعاً بشرياً ذلك الذي يضم أشباهك والمطابقين لك في السلوك نفسه. سلوك دعوة الناس على نبذك وانعزالك الاختياري - واقعاً - وليس القسري عن ذلك الاجتماع. سلوك تنفير الناس منك، بمزاج وأخلاق تنتهك حقوقهم، وتتعالى عليهم، وتعتدي على أبسط ما يحق لهم فيه.
وبقدر ما ينسحب الأمر على الأشخاص والجماعات، ينسحب كذلك على الدول. لن نتحدث عن المعايير التي تضع فيها المؤسسات الدولية اليوم دولاً على تلك القائمة، وإن لم توجد بالعنوان نفسه، فكثيراً ما يكون عنوان مثل تلك القوائم «الحصار الاقتصادي»، «قوائم الإرهاب» وغيرهما من العناوين. مثل تلك الدول كثيراً ما تكون بؤر قلق وتهديد لما حولها. ولا تنزع المجموعات الدولية، وكذلك الدول إلى حصر تلك الدول الباعثة على القلق، ووضعها في زاوية النبذ إلا بعد أن استشرت تجاوزاتها، وعظمت خروقاتها.
والأمر نفسه، وضمن الحيز المحدود، لا يعمد أي منا إلى نبذ شخص أو أشخاص أو مجموعات، ما لم يكونوا مصدر إرباك للمجتمع البشري الذي نتحرك فيه، وإن كان محدوداً هو الآخر.
في جانب من ذلك الإجراء، تحصين لمجموعة بشرية، امتداداً لتحصين المجتمع نفسه من الوبال الذي يمكن أن يصدر عن تلك الفئات من المحسوبين على البشر. وفي الوقت نفسه، قد يكون في مثل ذلك النبذ - بعد محاولات قدمت في هذا المجال - فرصة لمراجعة حقيقية للسلوك الذي يدفع البشر إلى النفور والاشمئزاز بفعل التطاول والتجاوز والانتهاك، وأنه لا يمكن للبشر أن يحققوا انسجاماً مع المجتمع البشري إذا رأوا في الخروج عليه وانتهاك حقوقه، طريقة لإثبات وجودهم. ثم إن الوجود لا يمكن تحقيقه بنفي وجود الآخرين، والتعدِّي عليهم، واستصغارهم، واحتقارهم.
يمكن لأي منَّا أن يثبت وجوده في المجتمع البشري الذي ينتمي إليه بقدرته على أن يكون نموذجاً ومثالاً وقدوة، وذلك أسمى ما يمكن لأيٍّ منَّا أن يحققه ويصبو إليه، وفي ذلك حصانة عظمى، ومكسب له مردوده على حركة ذلك المجتمع، وقدرته على أن يكون متحولاً غير ثابت. التجاوزات والانتهاكات والتطاول، والتي هي المبعث الرئيسي لنبذ أي شخص لا تصنع حياة، ولا تضيف قيمة، ولا تحقق وطر فرد أو مجتمع، كي يكون موضع جذب واهتمام، بسبب من القيمة التي يحملها. ومن يتم نبذه يحمل شهادة ألا قيمة له أساساً وسط المجتمع البشري الذي من المفترض أنه ينتمي إليه.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5042 - الأحد 26 يونيو 2016م الموافق 21 رمضان 1437هـ