غادرنا بيوتنا تملأ أرواحنا البراءة والشقاوة. صحبة من أربعة أو خمسة صبيان اعتدنا الذهاب سوّياً إلى المدرسة والتشاغل عن المسافة البعيدة بالأحاديث اللذيذة والقفشات المسلّية. ظهورنا تنوء بالشنط المحشورة بالكتب والدفاتر والأدوات. نحرص على عدم اصطدام أقدامنا بنتوءات الأحجار المنزرعة في الطريق غير المعبّد والأرض الترابية التي نسير عليها. كان يوماً قارس البرودة والسماء ملبّدةً بالغيوم تنذر بالمطر. تسلحنا بالحلل التي تحمي أجسادنا الغضّة بالإضافة إلى الأحذية المتينة.
سرنا بضع دقائق ووصلنا إلى الحي (الفريق) المجاور وتوغلنا فيه. هنا توجد محطتنا الصباحية اليومية قبل استئناف المشي. ولجنا منزلاً عتيقاً وتوجّهنا إلى أحد الغرف المنزوية بالداخل، فاستقبلنا الرجل العجوز سيد موسى ببشاشته وطيبته في تلك الغرفة التي يبيع فيها بعض المواد الغذائية وحلويات الأطفال. اشترينا ما يحلو لنا من «شعر البنات» و»السكسبال» والشكولاته والعلكة المربعة الشكل المرفق بها صورة ملونة من صور الممثلين والممثلات اللواتي يسحرن ألبابنا، وكان الرجل كعادته لطيفاً سمحاً يتغاضى عن التدقيق في محاسبتنا ويزيد من الكمية التي نطلبها.
خرجنا من منزلهم ونحن نتلذّذ بالأكل في أفواهنا. بدأ المطر يتساقط بغزارة فرحنا نحتمي منه بوضع الشنط فوق رؤوسنا العارية مع الحذر من الوقوع في المطبات التي تكثر فيها المياه حتى وصلنا إلى الحي الثاني. هنا الطريق ملئ بالمرتفعات والمنحدرات، مكتنز بالأشجار والنخيل الباسقات، مزدحم بمزارع البرسيم والخضروات. ورغم تبدّل الطقس واشتداد البرودة إلا أننا كنا فرحين مستمتعين بالمزاح وتبادل التعليقات والتندر على بعضنا البعض. تابعنا سيرنا حتى تجاوزنا ذلك الحي وعبرنا الشارع الفاصل بينه وبين القرية المجاورة التي توجد فيها مدرستنا.
مضينا في طريقنا وبعد وقت قصير وصلنا إلى التل المحاذي للمدرسة فصعدنا فوقه ونحن نلهو ونمرح غير مدركين لما ينتظرنا من أمر.
تغيّرت ملامح وجوهنا حينما لمحنا رجلاً ضخم الجثة واقفاً عند البوابة وبيده «خيزرانة» طويلة. أدركنا على الفور أنه المدير الأستاذ إبراهيم، فاقشعرت أبداننا.
قال والشرر يتطاير من عينيه: لماذا تأخرتم؟
- كنا... كنا.
- كنتم تلعبون. افتح يدك.
- سامحني أستاذ.
- لن أسامحك حتى لا تتأخر مرةً ثانية.
ارتعب قلبي ولم أجرؤ على فتح يدي.
-افتح يدك وإلا ضربتك على كل أنحاء جسمك.
أغمضت عيني وفتحت يدي... آخ... آخ... (يعوّر) أستاذ.
- افتحها مرةً ثانية.
فتحتها على مضض... آخ.
ترقرقت عيناي بالدموع وبكيت. لكنه لم يرأف لحالي.
- افتح يدك.
- إنه مؤلم أستاذ.
- قلت لك افتح.
فتحت يدي فراح يكيل لي الضربة تلو الأخرى وأنا أتلوى واعتصر.
- الآن اذهب إلى صفك.
حملت شنطتي ووجعي ومشيت محزوناً نحو الصف. التفت نحو زملائي وأنا أشفق لحالهم لما ينتظرهم من نصيب. الدموع تملأ وجهي وليس لدي منديل لأمسحها. جلست على الكرسي الملصق به طاولة ورحت أفرك يدي باليد الأخرى.
في ذلك اليوم كان عندنا امتحان شهري في الحصة الأولى، فكتب المعلّم الأسئلة على السبورة السوداء بالطبشور الأبيض.
كنت في حالة يرثى لها وحزن عظيم لكنني تحاملت على حزني وألمي وشرعت في الإجابة على الأسئلة. الدموع لم تزل تتساقط وبللت الأوراق. كنت أكتب بلا وعي أو تركيز ولا أعرف إن كنت أبليت بلاءً حسناً أم لا.
مع حلول الفسحة كانت أصابع يدي قد تورّمت ومالت إلى الاحمرار. لم أجد شهيةً للأكل أو حتى الاختلاط مع بقية التلاميذ.
حينما عدت إلى المنزل ظهراً حرصت على إخفاء الأمر عن أبي تفادياً لعقاب آخر. أما أمي فقد فطنت إلى تغيّر قسمات وجهي وتورّم أصابعي، فبادرت إلى إحضار زجاجة زيت الزيتون وأخذت تدلكها برفق وحنان. شعرت بتحسن طفيف فدفنت رأسي في صدرها ورحت أجهش بالبكاء.
في اليوم التالي، وزّع المدرّس أوراق الإجابات وانفرجت أساريري حينما اكتشفت إنني أحرزت علامة جيدة.
رغم ذلك، كانت الأوراق لا تزال رطبة منتفخة، مشحونة بالألم.
المنازل القديمة تريح النفس يحس الواحد بالراحة
نتمنى لكم جميعا الفوز ومزيدا من الكتابات الأدبية
آه ..... ذكرتني بالايام التي مضت و الله لقد كدت ابكي
سحر الكلمات المشحونة بالألم وفرحة تمت بحلو الإجابة