العديد من المهن الشعبية لم توثق بصورة علمية ممنهجة؛ حيث نجد المهن المتداخلة التي لا يتم التفريق بينها، وكذلك المصطلحات التي لا يميّز بينها. ربما لأن عدداً من هذه المهن تغيرت صورتها ومفهومها عبر الزمن، أو لأن عدداً من هذه المهن انتهت واستبدلت بمهن شبيهة لها.
واحدة من هذه المهن، هي مهنة الصَفّار، والذي تحوّل لاحقاً إلى تَنَّاك. كما اشتق من لفظة الصفّار عملية تصفير القدور، على رغم أن هذه العملية الأخيرة هي مهنة مستقلة بذاتها تعرف باسم مبيّض القدور. فما هي مهنة الصفّار في الأساس، وهل لها علاقة بمهنة مبيّض القدور؟ ولماذا عُرفت هذه المهنة الأخيرة عند العامة في الخليج بمهنة تصفيّر القدور؟
مهنة الصَّفَّار
اشتق اسم الصّفَّار من الصُّفر، ويعرف أيضاً باسم النحاس الأصفر، وهو عبارةٌ عن سبيكة من النحاس والزنك. واللفظة واردة في معاجم اللغة، جاء في معجم تاج العروس (مادة صفر): «الصُّفْرُ: بالضَّمِّ: من النُّحَاسِ الجَيّد، وقيل: هو ضَرْبٌ من النُّحَاسِ، وقيل: هو ما صَفرَ منه... وقال الجَوْهَريّ: الصُّفْرُ، بالضّمّ: الذي تُعْمَلُ منه الأَوانِي. وصانعُه الصَّفَّارُ».
إذاً، فالصفّار في الأصل، هو الذي يصنع الأدوات النحاسية، وهو ما تعارفت عليه العامة قديماً. ويقوم الصفّار بتصنيع أواني الطبخ والأواني التي توضع فيها الأطعمة بصورة أساسية، كالقدور والصواني والمغاريف والملاليس، كما يقوم بصنع الطشوت والأباريق، مستخدماً في ذلك صفائح من النحاس. أما طريقة صنع الأدوات النحاسية، فتشمل عملية القص والطرق، والتشكيل، والتسخين، واللحام (جمال 2003، ص 192 – 198).
يذكر أن النحاس عندما يتعرّض للماء، يميل إلى تشكيل أكسيد النّحاس، وهو طبقة خضراء اللّون تتشكّل فوق النّحاس، وهي مادة سامة، تؤدي للتسمم إذا ما اختلطت مع الطعام. هذه المشكلة أدّت لظهور تخصّص جديد، يقوم به الصفّار، أو أي شخص آخر يمكنه التخصص فيها، وهي مهنة تبييض النحاس، والتي تُعرف محلياً باسم عملية التصفير.
تبييض أو تصفير أواني الطبخ
مهنة تبييض النحاس، هي مهنة إزالة «الصدأ» من الأواني النحاسية وطليها بمادة الرصاص. وهي مهنة تُعرف في العديد من البلاد العربية، كمصر، وسوريا، ولبنان، باسم مبيّض النحاس. أما في دول الخليج العربي فقد ارتبطت مهنة تبييض النحاس بالصفّار، وعُرفت باسم التصفير، ربما لأن الصفّار امتهن هذه المهنة، سواءً قبل أو بعد كساد مهنة صناعة الأواني النحاسية.
هذا، وقد عرف في البحرين نوعان من الصفافير (جمع صفار)، فمنهم من يكون لهم محلات خاصة؛ حيث ظهرت سوق خاصة للصفافير في المنامة، وقبلها كان هناك حي خاص للصفافير كان يقع على شارع عذاري، وكان يمر بالقرب منه ساب عذاري (بشمي 2000، ص 31). كما كان هناك الصفّار المتجوّل الذي يجوب الشوارع والبيوت وينادي «صفّار أقدور»، وذلك في مواسم معينة، وبالخصوص قبل شهر رمضان.
وتنقسم عملية التصفير إلى مرحلتين، الأولى تحضير الوعاء للتصفير، والثانية، عملية طلائه بالرصاص. وفي كلا العمليتين يُستخدم النُشَادُر أو كلوريد الأمونيوم، الذي يكون على شكل مسحوق بلوري أبيض، حيث يتفكك النُشَادُر عند التسخين فيتحرّر كلوريد الهيدروجين الذي يكون فعالاً ضد أكاسيد المعادن والشوائب الأخرى الموجودة على سطح المعدن، وهو كذلك مذيبٌ لمادة الرصاص التي تستخدم لطلاء النحاس.
والغرض من عملية تحضير الوعاء أو تنظيفه، هو إزالة الطبقة الخضراء المتكونة من جراء عملية الأكسدة، وكذلك إزالة طبقة الرصاص القديمة المتآكلة، ويتم ذلك بوضع رمل، وبرادة حديد، والنشادر، داخل الإناء، وبعد ذلك تبدأ عملية الدعك باستخدام ليف النخيل أو ليف جوز الهند (النارجيل)، أو باستخدام قطعة من الجلد. ويستعمل الصفار في عملية الدعك كلا رجليه، متى كان الوعاء واسعاً، حيث يقف الصفار مستنداً بيديه إلى الحائط، وقدماه في الوعاء، ويبدأ بتحريك جسده يمنة ويسرة في حركة تشبه الرقص. هذه الحركة ليست حصرية على الصفّارين في البحرين، بل كذلك كان يمارسها المبيضون في سوريا ولبنان ومصر. هذه الرقصة التي بقت محفورةً في الذاكرة الشعبية، وكصورةٍ ارتبطت بالصفّار، وقد تم توثيق هذه الصورة في إحدى الأهازيج الشعبية التي ذكرها العريّض والمدني في كتابهما «من تراث البحرين الشعبي» (1994، ص 265)، وهي من ضمن الوصايا الشعبية التي تحذّر البنات من الاقتران بالصفار، لأن مهنتهم تعتبر من أشد الأعمال وأرهقها، وتبدأ الأهزوجة كالتالي:
وصيتي يا بنيتي، لا تاخدين الصفّار
لنهار يگلگل ...، وفي الليل يگابل لجدار
بعد عملية التنظيف، تبدأ عملية الطلاء، والتي تبدأ بعملية تسخين الإناء على النار، وذلك بوضع فوهة الإناء باتجاه النار، وبعد ذلك يتم وضع مسحوق النشادر والرصاص، وبعدها يتم تسخين الإناء، وهكذا يذوب الرصاص في النشادر ويبدأ بالانتشار على سطح الإناء. وبعدها يمسح الإناء بقطعة كبيرة من القطن فتلتصق طبقة خفيفة من الرصاص على الجدار الداخلي للإناء مما يؤدي إلى تغطية النحاس وعزله بطبقة رقيقة لونها فضي (جمال 2003، ص 192).
الخلاصة، أن مهنة الصفّار في الأساس، هي تصنيع الأواني النحاسية، إلا أن هذه المهنة انتهت بعد أن أستبدل النحاس بمواد تصنيعية أخرى. إلا أن الصفار بقي يمارس مهنةً أخرى ارتبطت بهذه الأواني وهي مهنة الصِفارة أو التصفير، وقد انتهت بعد الاستغناء عن الأواني النحاسية. كما بقي بعض الصفافير يمارسون تصنيع الأواني بمواد أخرى، فظهرت مهنة التنّاك، وهو ما سنتطرق له في الحلقة المقبلة.