ثمة متغيرات حدثت في العالم، وأوروبا خصوصاً، في مواقف المثقف الأوروبي، الفرنسي خصوصاً، وما يبدو أنه فقدان الغرب لليبراليته بفعل الإرهاب. المُتغيِّر الأول حدث بفعل طوفان اللاجئين الذي اجتاح أوروبا بسبب الصراعات والحروب في الشرق الأوسط، والذي يُعدُّ المنطقة الأسخن والقابلة للانفجار حتى في مناطقها التي تبدو في منأى عن تلك الصراعات.
ما قبل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، في الولايات المتحدة، شهد المتغير الأول (تدفق اللاجئين)، حضوراً في فرنسا العام 1970، وهذه المرة من الضفة الآسيوية (الفيتناميين والكمبوديين واللاوسيين)، إلا أن مواقف المثقفين الفرنسيين، واليساريين منهم تحديداً كانت مشرِّفة وواضحة في ضرورة استيعاب ما يقدَّر وقتها بـ 120 ألف لاجئ في فرنسا. الصورة تغيرت اليوم تماماً، فنصيب فرنسا من الحزمة العملاقة من اللاجئين ربما تكون هي الأقل مقارنة بإمكاناتها وحضورها وتأثيرها الدولي.
الإرهاب هو الآخر عمل عمله في إحداث متغير على الليبرالية الغربية، ساعد ذلك أن اقتصادات بعض تلك الدول ذاهبة في التآكل. هذان الملفان تفتحهما مجلة «الدوحة» في عددها 104، من خلال ورقة عبدالله كرمون التي حملت عنوان «أزمة اللاجئين وصمت المثقف الفرنسي»، وتناول فيها ملفين، الاقتصادي بفعل حزمة من الأزمات الداخلية الخانقة، من أوضح صورها انهيار معدل الاستهلاك، وتراجع الحركة السياحية من الخارج، علاوة على انهماك المعسكر الاشتراكي بحدث الانتخابات باعتبار أن هذا العام يشكل المرحلة الأخيرة من رئاسة فرانسوا هولاند.
يرصد كرمون صمت المثقفين أمام هذا الملف الإنساني الشائك، الذي بات يضع كل القيم التي ناضلت من أجلها فرنسا لعشرات العقود، على المحك، وخصوصاً أن النخبة المثقفة في فرنسا هي التي تتصدَّر الصورة الليبرالية والحقوقية التي يتم تقديمها إلى العالم، أو عرفها العالم عنها. يوصِّف كرمون حال المثقف الحالي إزاء هذه المعضلة الإنسانية الكبيرة من خلال مقاربات سبق وأن طرحت تتعلق بموت المثقف، في ظل غياب نماذج فاعلة في هذا المضمار أمثال، جان بول سارتر ورايمون أرون، اللذين سجلا مواقف واضحة من أزمة اللاجئين الآسيويين في العام 1970، حين دعيا «إلى إغاثة قوارب النازحين الفيتناميين والكمبوديين واللاوسيين حينها».
120 ألف لاجئ آسيوي
وقتها قامت فرنسا بتوفير اللجوء التام لأكثر من مئة وعشرين ألف آسيوي «في فترة تاريخية حرجة على مستوى الهجرة الأجنبية في فرنسا». مشيراً كرمون إلى أنه في أواخر السبعينات كان الخطاب الرائج هو مثله مثل الخطاب الذي يتناول حالياً في البلد، فيما يتعلق بالبطالة المستشرية «وأن فرنسا لم تعد بحاجة إلى المهاجرين».
بعض الاستعراض التاريخي لتجربة استقبال ذلك العدد الكبير من اللاجئين الآسيويين يتناول كرمون في ورقته واقع اللاجئين الذين يشكلون اليوم بتدفقهم على أوروبا النزوح الأكبر في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، وموقف المثقفين الفرنسيين الذين من المفترض بهم أن يكونوا فاعلين في الحراك عموماً، إلا أنهم أمام هذه المعضلة الإنسانية الكبرى التزموا الصمت، ولم يعد يسمع لهم صوت مؤثر وقادر على تغيير موقف حكومتهم من التشدد في استقبال اللاجئين.
هنالك ما يشبه التخوف الكبير الذي ينسحب أيضاً على المثقفين الفرنسيين من أن اللاجئين القادمين عبر البحر، أو من خلال حدود أوروبية لصيقة يأتون بثقافتهم ومللهم ونحلهم، وخصوصاً المسلمين منهم؛ حيث بات الإسلام اليوم يشكل الخطر الأكبر على المكتسبات الفرنسية، وخصوصاً مع الأعمال الإرهابية التي تكررت ولم يفصل بينها زمن كبير، علاوة على وجود الجالية المسلمة الأكبر في أوروبا، وخصوصاً من دول المغرب العربي.
ظلت ألمانيا متصدرة الدول الأوروبية التي استقبلت اللاجئين، وخصوصاً السوريين والعراقيين منهم، بينما لم تستقبل فرنسا إلا نسبة يسيرة منهم «بعدما تم الاتفاق المتعارف عليه مع ألمانيا».
ويشير كرمون إلى أن باريس شهدت توافد المهاجرين الذين طُردوا طرداً من الشمال الغربي لفرنسا؛ إذ هدمت المخيمات التي كانت تأوي عدداً لا يستهان به من المهاجرين الذين يودون العبور على بريطانيا.
موضحاً موقف الوسط اليساري - على رغم تقيِّته - بالترحيب باللاجئين، والانغلاق الذي وضعت باريس نفسها فيه «كارهة فتح أبوابها، لمن قد تخشى منه أن يدس السم في العسل».
مختتماً ورقته بالقول: «تضاربت آراء المثقفين حول السماح بقبول فئات عريضة من اللاجئين على أرض الجمهورية؛ إذ رفض ذلك أهل اليمين رفضاً باتاً، في حين تلعثم كثير من اليساريين، خوفاً منهم، أن يُعتبروا منحازين إلى معسكر الإرهاب: تهمة هذا الزمن البئيس».
الليبرالية والإرهاب... الأصولية الموازية
وكتب إميل أمين متسائلاً «هل يفقد الغرب ليبراليته بسبب الإرهاب»؟ متطرقاً إلى ثلاث مجموعات من التحديات واجهت مسيرة الليبرالية الغربية، وهي بمثابة تهديدات، تمثَّلت في الأيديولوجيات المنافسة التي كان لديها في بعض الأوقات دعم شعبي ضخم داخل الغرب «وقد عبَّرت تلك الأيديولوجيات عن نفسها في ثلاث صور، القومية، الشيوعية، والفاشية، التي تنافست مع الليبرالية من أجل القوة في القرن العشرين».
أما المجموعة الثانية، فتم التعبير عنها بالتهديد القادم من الأعداء الخارجيين المرتبطين بأيديولوجيات لها دعم غربي ضئيل، وبقيت مجموعة التهديدات الثالثة تنبثق من داخل المجتمع الليبرالي نفسه.
مشيراً في هذا الصدد إلى المُهدِّد الذي يكاد يهزم قيم الغرب بليبراليته اليوم وهو الإرهاب. في مواجهة مثل هذا الإرهاب، يبدو السؤال «هل ينتكص الغرب على ليبراليته لتنتصر دعاوى الأمن في مقابل معطيات الحرية»؟ يوضح أمين بأنه من غير المشكوك فيه، أن خطابات الكراهية والتعصب المقيت قد أوجدت في المقابل تياراً يمينياً، يسعى بشكل طبيعي إلى بلورة اتجاه أصولي موازٍ، لا يقيم وزناً للحريات الخاصة، طالما بقي سيف الخوف مسلَّطاً على الرقاب.
يستشهد أمين في هذا الصدد بما كتبه رئيس تحرير صحيفة «ليبيرو» اليمينية الإيطالية، عمَّن يسمِّيهم «المسلمين الأوغاد»، وفي مقابل ذلك الصوت الصريح في أصوليته «ترتفع الأصوات في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية، قلب الليبرالية الغربية، لا لتندِّد بأعمال الظلامية الداعشية فقط، بل لتحاكي ردود أفعالها، وتكاد تتماهى في آليات المعالجة مع العنف الداعشي لفظاً وقولاً، وإن كان الأمر مرشحاً لعنف مقابل سيأتي تباعاً ولا شك».
أقبية فرنسا... الإرهابيون
يظل صوت ومواقف زعيمة حزب الجبهة القومية الفرنسية، الذاهب في الاتجاه النقيض من الليبرالية الغربية، ماريان لوبان، هو الأعلى في سفوره وأصوليته المقيتة، حد تقديم الصورة البشعة والكاذبة والمموهة لليبرالية الغربية، يستحضر أمين جوانب من تصريحاتها، حتى ما قبل طوفان اللاجئين الذين اجتاح أوروبا، ومع ذلك الطوفان، صار لتصريحاته صدى أكبر، وقبولاً في كثير من الأوساط الفرنسية، وحتى الأوساط اليسارية التي لجأت إلى التقية في هذا المرحلة المُربكة في تحولاتها، حيث تطالب اليوم «بتفتيش أقبية فرنسا بحثاً عن الإرهابيين من المسلمين، ناهيك عن دعواتها لإسقاط الجنسية، وطردهم من البلاد».
بعض الدول الإسكندنافية «والتي كانت إلى وقت قريب جداً بعيدة عن دائرة الصراع الأصولي»، كما يشير أمين، لم تنجُ بعض دولها من ذلك الوباء، مستحضراً هنا مواقف وتصريحات أحد أبرز شخصيات اليمين المتطرف في الدنمارك، فسورن أسبرس، والذي اعتبر أن ضرورة الفوز بالحرب على داعش، تبيح استخدام الأساليب كافة؛ حتى ولو كان الأمر على حساب المدنيين من النساء والأطفال.
يتقصَّى أمين الجانب الآخر من الأطلسي، بتراجع الليبرالية والحريات الشخصية في دوله، مطلقاً على إحداها «جمهورية الخوف»، تلك التي ولدت نهار الثلثاء من شهر سبتمبر 2001، «والنتاج الطبيعي، مدٌّ ديني اصولي - يميني بعيد شكلاً وموضوعاً عن الأدبيات الإنسانية الكلاسيكية التي وفَّرت للغرب مناخات الحرية والتفرُّد والإبداع».
دونالد ترامب هو الأكثر حضوراً في طغيان الخطاب الأصولي العنصري، سعياً منه إلى الحصول على بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية، بمطالبته التي كررها في أكثر من ولاية ومدينة ووسيلة إعلامية «عزل المسلمين وإقصاءهم من المجتمع الأميركي، ومتهماً إياهم بعد حادث بروكسل بأنهم شركاء في الإرهاب»، وعلى الجانب الآخر من المنافسة يطالب تيد كروز، السلطات الأميركية «منح دوريات الشرطة صلاحيات أكبر لمراقبة الأحياء التي تقطنها أغلبية مسلمة، تجنباً لظهور نزعات راديكالية؛ فضلاً عن تأمين الحدود الجنوبية لمنع تسلل الإرهابيين».
آيلباوم ونهاية الغرب
يتساءل أمين عن إمكانية اقتراب مشهد الولايات المتحدة الأميركية اليوم من مشهد عزل اليابانيين في معسكرات جماعية، وعزلهم عن بقية الأميركيين، بعد الهجوم الياباني على «بيرل هاربر»، مشيراً إلى أن هناك مكارثية جديدة وليدة في الطريق «ما يعني أن الغرب الليبرالي آخذ في التنكُّر رويداً رويداً لقيم ومفاهيم الحرية». مقابل تلك النماذج من نخبة السياسيين والمثقفين، يضعنا أمين أمام ما أسماها أحد أفضل العقول الغربية التي تنبَّهت لإشكالية الغرب المهدد بنهاية الحقبة الليبرالية، جراء صراع الأصوليات، وهي الكاتبة الأميركية الجنسية، البولندية الأصل، آن آيلباوم، بتساؤلها في مقال لها بصحيفة «الواشنطن بوست»: هل هي نهاية الغرب»؟، ومبعث تلك المخاوف تنطلق من عمليتين انتخابيتين أو ثلاثة انتخابات، قد تشكل نهاية حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، وربما نهاية النظام العالمي كما تعرفه. في إشارة إلى الانتخابات الأميركية والفرنسية، والاستفتاء المتصل بوضع بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
موضحاً أمين أن الليبرالية الغربية في القرن العشرين كانت مهددة بفعل ثلاث أيديولوجيات غربية متنافسة: القومية، الفاشية، والشيوعية «واليوم تكاد تموت تحت ضربات، جماعات الإرهاب غير المجهولة النشأة والهوية، والتي لا تملك إلا القليل جداً من الجاذبية في الغرب».
خريطة العدد
تضمَّن العدد الموضوعات الآتية: «سفن السندباد في بحر الشمال»، لخالد النجار، «غياب النصوص الأدبية في المناهج المدرسية»، لنوَّارة لحرش، «فن الهامش ينتعش»، لعبالخالق ميفراني، «ما ورد في نازلة الذهب الموريتاني»، وهو ريبورتاج عن حمى البحث عن الذهب في صحراء موريتانيا، لعبدالله ولد محمدو، وفي باب «بورتريه»، «البديل وهشاشة العمق»، وفي باب «أدب»، «حوار سارة ووترز: الكتابة مهنتي وحياتي تعيسة بدونها»، ترجمة نصر عبدالرحمن، «دراسة: الأدب الإسلامي التركي... في عصر الجمهورية»، لعبدالقادر عبداللي، «الحكاية في فضاء السوق»، لجمال حسن، «الأدب وجدلية الزمن»، لأسامة عثمان، «جاك بيرك: رجل الضفتين»، أبوداود عميِّر، وفي باب «ترجمات»، «ترجمات جديدة لآرثر رامبو»، ترجمة: محسن العوني، «(اللئيم) لميخائيل زوشينكو»، ترجمة: اشرف عبدالحميد، «(طيور) لبرونو شولز»، ترجمة: أماني لازار، و «اليتيم» لغي دي موبسان»، ترجمة: ياسمينة صالح. في باب «كتب»، «تكنولوجيا تذويب العالم»، لسيد ضيف الله، «أنسي الحاج... حبات من الملح وبضع نقاط من البخار»، لجمال جبران، «هايدغر والفكر العربي»، للمهدي مستقيم، «(البيت الأوَّلاني) قصص على جناح الذاكرة»، للنا عبدالرحمن، «امتحان الغربة في (يوميات الشنفرى)»، لعبدالدائم السلامي، «حياة ضائعة في لوحة»، لإينانة الصالح، و «القصيدة لا تُكتب مرتين»، لأرشيد الخنيري.
أما الملف الشهري فخصصته المجلة للسينما، وحمل عنوان «السينما البديلة عربياً... المخاض الموازي للحرية»، شارك فيه كل من: حسام علوان، أحمد ثامر جهاد، ياسر فائز، أمجد جمال، عبدالكريم واكريم، عدنان مدانات، نديم جرجورة، وعماد مفرح مصطفى، إضافة إلى الباب الثابت في المجلة، وتضمن مشاركة: «محمد دياب: واجهت خوفي الشخصي في (استباك)»، حوار: أحمد شوقي، «في مهرجان كان السينمائي 69... العنف والثورة والهموم الاجتماعية»، لأمير العمري، «في (كان) وغيره... الأفلام العربية خارج المنافسة»، استطلاع: نسرين حمود، و «أين سيكون الغزو القادم»، لسمير فريد.
إضافة إلى «ميلانو الوصايا العشر السياحية»، و «ماريو فارغاس يوسا يدخل فهرس لابلياد»، وملف آخر عن ثقافات رمضان، شارك فيه كل من: عبدالله عمر، وجدي الأهدل، ومحمد الأصفر.
سلمت انامل الكاتب