الإجابة يجدها القارئ في كتاب حديث صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «الخروج من جهنم: انتفاضة وعي بيئي كوني جديد أو الانقراض»، للكاتب اللبناني سعد محيو. وتضمن تسعة فصول، نبش وحفر الكاتب في أعماقها مواضيع متشعبة تناولت الإنسان والكوارث البيئية المتفجرة التي ما برحت تشكّل هاجساً وقلقاً تناوله في سجالاته الفكرية وكتاباته التحليلية والسياسية لسنوات، حيث يشير إلى مسئولية العولمة والنظام الدولي في تحويل السلام لمجرد أداةٍ لإدارة الحروب. ويسلّط الضوء لإبراز المخاطر البيئية في «أُمُّنا الأرض تحتضر»، فيتناول حروب النفط «الصخري والتقليدي» المتواصلة ضد البيئة والحضارة، ويقدّم موضوع الثورة التكنولوجية الثالثة وانقلابها من حلمٍ للإنسان إلى كابوس زاد من بؤسه وشقائه.
بشأن الوعي الجديد وتمخضات ولادته العسيرة، ثمة أملٌ تطرّق إليه الكاتب في فصل مفرد من خلال معالجات فكرية ناقشها عبر اتجاهات الإيكو-اشتراكية وعلم النفس النقدي وحركة التطور الواعي؛ كونها تمثل خطوات جريئة باتجاه «الإنسان الكامل»، وربط مناقشة بفكر الأنوار وثوار الحداثة الأولى مثل سبينوزا إلى كانط، ممن اعتبرهم «أنبياء» ورواداً قدماء لوعي جديد بسبب التقاطهم قضية البيئة ومخاطر التطور العلمي والتقني.
كما تساءل في الفصل الثامن عن زمن ولادة «الإنسان المُضاعف» و»الفرد الجماعي»؟، وفي التاسع والأخير حط الرحال إلى وعي جهنّم وأوهام الانفصال، داعياً لانتفاضة أديان تساهم في إنقاذ البشرية من الوضع الكارثي المدمّر، وأن يُعاد للروحانيات بعضٌ من بهجتها. وسوّغ في خاتمة بحثه الذي استغرقه معاناة سنوات لأمل وحلم انتفاضة «العنقاء البيضاء» للخروج من جهنم بدلاً من الانقراض الذي تسير باتجاهه البشرية.
التغير تراكمي
يتساءل الكاتب: هل يمكن حدوث تغيّرات وتحولات كبرى دون أن نشعر بها؟ ويرد بـ»نعم» كبيرة، لكنه يستدرك قائلاً: هذا لا يعني أن التحوّلات تولد من لا شيء وتكون كصاعقة في سماء صافية، بل تأتي بعد سلسلة تراكمات كمية تسفر عن تغيّر نوعي، والبشر بسبب طول الأمد الزمني للتحولات لا ينتبهون لصيروراتها ومآلاتها المحتملة، فيعتقدون أن الواقع المؤقت الراهن هو الدائم، وهذا ما يحدث راهناً: تراكمات الثورة التكنولوجية والأيديولوجية؛ في الاقتصاد والفكر والزراعة والبيوتكنولوجيا والصناعة التي بدأت تنتقل من عالم المادة لعالم المعلومات والأفكار، وفي الطب العضوي والنفسي وفي مفاهيم القوة تماماً كما في نظريات السيادة والدولة-الأمة والحدود، ويتفق مع حازم الببلاوي في تسميته هذه الثورة بـ»عصر الانقطاع» كما حدث عند ثورة الزراعة التي مثلت انقطاعاً عن نمط حياة القنص والبداوة والثورة الصناعية التي قلبت حياة البشرية، فالثورة التكنولوجية الثالثة الراهنة هي فاتحة عصر جديد يمثل انقطاعاً كبيراً في نمط الحياة والإنتاج.
هنا يوصف الكاتب الحالة البشرية وما آلت إليه قائلاً: «إن التراكمات نراها الآن ونتلمس بعض تمخضاتها وانعكاساتها من انتقال الجاذبية الدولية من أوروبا إلى آسيا، ومن الغرب «المسيحي» إلى الشرق «الكونفوشيوس-الفيدي»، ومن الدولة –الأمة إلى إمبراطورية العولمة، وكذلك في التاريخ الطبيعي من «تغيّر المناخ» واحترار الكوكب، وتلوّث البحار والمحيطات والأنهار والأجواء والتربة التي تهدّد بقاء الجنس البشري، من ازدياد تركيز الغازات السامة بسبب حرق الوقود الأحفوري والمواد العضوية، وارتفاع معدل حرارة الأرض ومنسوب مياه البحار وغزارة الأمطار وتركيزها في مناطق معينة وتناقص الجليد القطبي، كل هذا يحدث أمام أعيننا الآن، وعلى رغم تقدير العلماء بأن الكارثة النهائية وانقراض الجنس البشري قد لا يحدث قبل 50 إلى 100 عام كفرضية، فلا أحد مستعد لترجمة تراكم هذه المؤشرات الكمية إلى نظرية تقود لنموذج جديد في علاقة الإنسان بالبيئة والاقتصاد والحياة، وهذا ينطبق على العلاقات الدولية، و»الأيديولوجيا والتكنولوجيا»، والنفط التقليدي والصخري، وعلى الوعي الفردي والجماعي.
نظام مكيافيللي
ثمة يقين عند الكاتب محيو، أنه وعلى رغم مؤتمرات قمم الأرض والمناخ، بقيت العلاقات الدولية في وادٍ ومستقبل أمّنا الأرض في وادٍ آخر، لماذا؟ لأن النظام العالمي لا يزال يعتمد مفاهيم القوة وموازينها، والحروب الباهظة البشرية والإيكولوجية، والتنافس على الموارد ما يجعل صحوات ضمير أوباما أو البابا وغيرهم مجرد «خرابيش» على رمال متحركة، فأغلب المحللين باعتقاده يجمعون على انتهاء مرحلة القطبية الأحادية التي سيحل محلها لاقطبية دولية، بإشراف قوى العولمة، لكن اللاقطبية تعني أيضاً تفاقم المنافسات وصراعات بين أصناف مختلفة من الرأسماليات، كأننا في زمن عشية الحرب العالمية الأولى، وهذا أمر طبيعي بسبب سيادة العلاقات الدولية المستندة لوعي مكيافيللي وإمبراطوري قديم قائم على حروب الجميع ضد الجميع الهوبسية، وعلى مفاهيم القوة تحت شعارات فضفاضة للمصلحة القومية.
وينوّه الكاتب إلى «نجاح الوعي المكيافيللي في تبرير حروب الحكام بلا استثناء وصراعاتهم المدمّرة على أنها بديهية وضرورية عبر نشر ثقافة الخوف والتخويف وخلق نزعة «كراهية الآخر»، حتى تحوّل وعد سلام العولمة النيوليبرالية وانكشف عن كونه حروباً بوسائل أخرى ضد ثلاثة أرباع البشرية وكوكب الأرض الذي لم يعد يحتمل هذه العربدة الفكرية واستراتيجية الدول الكبرى والعولمة النيوليبرالية، خصوصاً وأن تغيّر المناخ يسير بسرعة تدفع الحياة إلى الهاوية.
النفط ومخاطر البيئة
قلق المؤلف وهواجسه بالكوارث البيئية والإنسانية، قاده لمناقشة التنافس العالمي على مصادر الطاقة، فوجد إنه ومنذ إطلاق الولايات المتحدة «ثورة الشيل» (Shale Revolution) أي «ثورة نفط وغاز الصخر الحجريين»، شكلت الثورة انقلاباً خطيراً على البيئة أكثر منها ثورة، لماذا؟ لأنها أحد المخاطر على التوازنات الإيكولوجية والجيولوجية للأرض بسبب «التكسير المائي» (Hydraulic Fracturing) وما تتضمنه من عمليات حفر وحقن للسوائل إلى باطن الأرض وتحت ضغط مرتفع للغاية، بهدف تحطيم الصخور التي تحتوي الغاز والنفط، ما يؤدي إلى زلازل أرضية وتسرّب غاز الميثان والكيماويات السامة وتلوث الجو والمياه الجوفية، إضافةً لاستهلاكه كميات هائلة من المياه في الوقت الذي باتت فيه صراعات وحروب المياه وشيكة، فضلاً عن أن «ثورة الشيل» تعرقل الحصول على بدائل طاقة نظيفة ومتجدّدة، كما إنها تدفع بـ»حروب الطاقة» لمستويات متقدمة، إلى جانب الصراعات المدمّرة على النفط التقليدي، ما يعني أن الفرضيات القائلة بأن الولايات المتحدة التي تمتلك 15% من إجمالي ثروة النفط الصخري العالمي، ستتفوق على السعودية وروسيا والصين والمكسيك وبريطانيا وبولندا بما تملكه من هذه الثروة، وسترفع حتماً شدة المنافسة وما يستتبعها من حروب.
نهوض العنقاء
ومع أن المؤلف لا يجادل بشأن العقبات التي تقف أمام استيلاد وعي جديد لمواجهة الكارثة البيئية، إلا أنه يؤكّد الحاجة إلى بشرية جديدة ووعي ناضج يغادر الانقسامات الدينية والقومية والقبلية الدموية ليعانق الوجود والكون وكل المخلوقات بروح اندماجية منطلقة وفرح وجودي. وهذا باعتقاده يستوجب الإدراك بأننا نعيش فعلاً في جهنّمات متعددة، تدفعنا للعمل على التحرّر من وهم انفصالنا عن باقي الكائنات والكون؛ والسعي لانتفاضة روحية - فكرية مشتركة في الأديان. هناك المتشائمون ممن يعتقدون أن الجنس البشري دمّر بسبب عدم تجاوزهم الوعي المكيافيللي، يقابلهم المتفائلون المعترفون بالمخاطر، وبأن الحلول الإنقاذية طوباوية، والأهم لابد من انتفاضات تتبنى برامج إيكولوجية وبيئية شاملة، وبدائل اقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية واضحة المعالم. فوعي الحروب والمآسي المكيافيللي القديم والانفصال عن الكلي والكون والطبيعة، يجب أن يحترق قبل ولادة الوعي الجديد، الديالكتيك، فمن الواضح هنا أن الوعي الجديد يشكِّل فعلاً نقيضاً- أو نفياً- للوعي القديم.
خلاصة الأمر، تبدو أفكار محيو متكرّرة لمن يتابع تحليلاته، بيد أنها ثمرة جهد مميّز تعمق في دراسة الهواجس البيئية الكارثية المعاصرة التي تناولها بمنهجية في العلاقات الدولية وحروب الطاقة وتقديس التكنولوجيا وسيطرة الفكر الميكافيللي المدمرة. الكتاب يجمع بين الفلسفة والسياسة والبيئة، وبين جهنم المتخيّلة وجهنم البيئة التي يقدّم تصوراته للخروج منها تيمناً بحياة العنقاء حين تحترق لتولد من جديد.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5037 - الثلثاء 21 يونيو 2016م الموافق 16 رمضان 1437هـ
مقال مهم ندعوا القراء لقرائته
شكراً للكاتبة في ما قدمته من قراءة مهمة لكتاب محيو الذي يبرز محطات مهمة في قضايا العصر وادعوا القراء الى الاهتمام بقرائته وتبين ما يسجل من بيانات ومعلومات ينبغي معرفتها لتكوين ثقافة ذاتية حول مخاطر معضلة القرن.