في 2011، حينما كان الوطن العربي، في أجزاء كبيرة منه يغلي في أرضه بأوضاع مزمنة عصية على التغيير، وتتلون سماؤه بأطياف الأمنيات بمستقبل أفضل، وضعت المخرجة اللبنانية، نادين لبكي، يدها على أصل الداء في فيلمها «هلا لوين».
في الفيلم الذي دارت أحداثه حول الطائفية التي دمّرت العيش الجميل الذي كانت تنعم به قرى الطيبة ومشمش ودوما اللبنانية التي بدت منقطعة عن المدنية، حرصت لبكي أن تُظهر في مبالغة مريحة للخيال مشاهد الحب والوئام وكأنها تودّ أن تقول فيما بعد: «هكذا يدمّر سعار الطائفية، وفي فترة بسيطة، كل الصفاء والنقاء والتعايش الجميل الذي سكن القرية وقلوب أهلها دائماً».
وعلى رغم افتقار الفيلم لعقدةٍ تثير خيال المشاهد ويترقب معها النهايات غير المتوقعة، ربما يعود ذلك للهفة «صانعة» الفيلم التي انفردت بعدة أدوار رئيسية في إنتاج الفيلم من الكتابة إلى التمثيل إلى الإخراج، للقبض على هذه اللحظة التي كان يمر بها تاريخ بلدها وأمتها بكاملها، إلا أنه كان قطعة إبداع رائعة تستحق بذل قرابة الساعتين من الوقت في مشاهدته، ذلك لأنه بأحداثه البسيطة الواقعي منها والخيالي المبالغ فيه على السواء، كان في ذلك الوقت العصيب، قريباً من قلوب كل من يعيش في أوطان تبخّر أمانها واشتعلت النار في يابسها وأخضرها لأسباب الطائفية والصراع على السلطة، وانغلاق العقول على نفسها عن الاعتراف بوجود الآخر، والاعتقاد الأعمى بأن كل طرف على حق، وأن هذا الحق يمتد ليبيح له القضاء على الآخر.
نجح الفيلم في أرجحة شعور المشاهد بين فرح اللوحات الغنائية الجميلة في أوقات القرى الرائقة، وبين لوعة القلب لصراخ «أم نسيم» وهي تبكي بحرقة ابنها الذي قتله رصاص طائفي. ولكن مشاهد صدمة الكراهية التي هجمت على القرية السعيدة بطائفتيها المسيحية والمسلمة، ومشاهد الفقد التي تجسّدت بقوة الأداء مهيمنة على المزاج، ولم تحتج الدموع للكثير من المقاومة لتتنفسها العيون عند مشاهدة الفيلم. قد يكون لروعة الأداء والإخراج دوره في ذلك، لكن الأكيد أن مشاهده تستحضر الأحداث المشابهة التي مررنا بها، والأحاديث الدائرة فيه تجد فوراً ما يطابقها في ذاكرتنا القريبة، حينها، باعثة الحسرة التي سكنت قلوبنا وأفقنا بكامله، خوفاً على أوطاننا.
خمس سنوات مرّت على فيلم لبكي، وما أشبه الليلة بالبارحة. لم نتعلّم الدرس، فلم يكن نسيم الذي هزّ صراخ فقده أفئدة المشاهدين، شخصاً قُتل في صراع بين طرفين، بل هو كل شيء جميل بجمال نسيم الشاب المليء بالحياة والأمل، ضاع من أيدينا في هذا الصراع المجنون. هو علاقات جميلة انتهت، وهو أمان راسخ بات يتأرجح بعد ثبات، وهو تميّز ونمو وارتقاء في أوجه حياتنا بات حائراً يتقدم خطوة ويتراجع عشراً.
خمس سنوات مرّت ولم نتعلم الدرس، ومازالت الأخبار تنفث سمومها في خلايا وعي الناس، ومازالت التغريدات تتحوّل إلى نعيق ينذر بالخراب أينما اتسع لها المدى.
خمس سنوات مرّت ولم نتعلم الدرس، ولا تزال الرؤية غائمةً، والطريق الوعرة تستنفد قوى السائرين فيها، والحمل يزداد ثقلاً على أكتاف عشّاق الأمل بغد أفضل.
خمس سنوات مرّت، ولم ينجح خلالها إرثنا العظيم في المحبة والتعايش من أن يصنع حبلاً يمدّه لنا لينجينا من غرق محقّق، أو يشفينا من الصمم الذي أصابنا حتى لم نعد نسمع «صراخ أم نسيم» وقد بات أكثر دوياً في ذاكرة الأوطان المتعبة.
نادين لبكي اختارت لفيلمها نهايةً سعيدةً كالحلم. قلت حينها عندما شاهدت الفيلم: «لو زارني في المنام لتمنّيت ألا استيقظ منه أبداً».
في نهاية الفيلم استيقظت القرية الوادعة في صباح وداع الشاب نسيم على نسائها وقد تبادلن دين بعضهن البعض، فبدت أيفون المسيحية جميلةً بحجابها الإسلامي وهي تدعو الله من على سجادة الصلاة، بينما أطلقت فاطمة المسلمة المحجبة شعرها يتطاير بحريةٍ في الهواء. ومشى أفراد القرية جنباً إلى جنب كما كانوا دائماً، بعزمٍ صلبٍ وخطى ثابتة إلى الأمام كمن ترك وراءه طريقاً لا رجعة إليه. وجوههم المتجهمة حسرةً على دم ابن القرية الغالي الذي أهدرته الطائفية المقيتة، تعِد أيضاً وعداً غليظاً بأن هذا الدم الغالي لن يذهب إلا قرباناً من أجل وطن أغلى.
لن يكون الحل سهلاً كما قدّمه «هلا لوين»، لكنه بالتأكيد لن يبدأ إلا من عنوان الفيلم الجدير بالتعديل إلى لهجات أوطاننا الكثيرة بكثرة خلافاتنا واختلافاتنا، لنسأل أنفسنا: إلى أين نحن ذاهبون؟
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5037 - الثلثاء 21 يونيو 2016م الموافق 16 رمضان 1437هـ
شكرًا للأستاذة هناء على روعة المقال ليت تتفتح عقول بعض البشر المريضة لدينا التي همها الوحيد ان تأجج الفتنة و الفرقة في المجتمعات لكي تتغذى من خلالها وتشبع غريزتها الوحشية ليتهم يخافون الله في افاعلهم و اقوالهم وليت من يسمعونهم ان يفكرو في افاعلهم و ردودهم ولا يجب ان ياخذو بأقوالهم فكل شخص لديه عقله فاحترام النفس قبل احترام الاخر، لسان العاقل وراء قلبه و قلب الاحمق وراء لسانه. و أنشالله سيكون وطننا الحبيب في حال أفضل من حاله ولن يبقى شي على حاله.
هذا هم معدنك الطيب لم ولن يتغير ابداااا
مقال في قمة الروعة والجمال
ولكن أين من يتعظ ويفكر في مصلحة الوطن؟
كل شي بيكون للأفضل ان شاء الله قريبا.
إذا غاب العقل
إذا غاب العقل حلت الكوارث ودمرت الأخضر واليابس والنار إذا شبت أحرقت حتى مشعلها العقل ثم العقل ثم العقل
مقال رائع. شكرا هناء