في يوم تشييع جنازة أسطورة الملاكمة العالمية محمد علي كلاي من الشهر الجاري، أجرت الـ BBC حواراً مع المعارض وعضو البرلمان السوري السابق محمد حبش، وفي سياق تناوله الموقف الجريء الذي وقفه كلاي ضد حرب بلاده العدوانية على الشعب الفيتنامي المسالم الفقير، أثار نقطة جديرة بالاهتمام، تتمثل في خلو تشريعات ومواثيق حقوق الانسان الدولية من حق الجندي، كونه إنساناً، في رفض المشاركة في أي حرب عدوانية ظالمة تشنها بلاده على شعب آخر وليست دفاعاً عن وطنه، وإن كان في تقديري إقرار حق كهذا في التشريعات الدولية ليس من السهل التوافق عليها دولياً، إذ تكتنفها تعقيدات جمة ليس هنا موضع تناولها.
وهكذا فإن «كلاي» لم يكن بطلاً عالمياً فوق حلبات الملاكمة، وفاز بكل جدارة واستحقاق 3 مرات ببطولة العالم للملاكمة للوزن الثقيل فحسب، بل إن بطولاته الشجاعة على الحلبة السياسية الأوسع رحابةً لا تقل إثارةً وأهمية عن بطولاته فوق حلبات الملاكمة، التي وظّف شعبيته فيها لتوعية مؤيديه، وذلك بما سطّره من مواقف شهمة صلبة لا تلين، في تمسكه بالمبادئ والمُثل الإنسانية والدينية التي آمن بها، وهى تتجلى في 3 مآثر مترابطة ومتداخلة:
الأولى: دفاعه عن عرقيته وحقها في العدالة والمساواة بالبيض ورفض التهميش، فقد تفتحت مدارك كلاي الطرية في حيه «لويس لوڤيل» الفقير بولاية كنتاكي على مظاهر التمييز العنصري الصارخ بحق أبناء جلدته في شتى مناحي الحياة؛ إذ لم يكن يحق لهم الالتحاق بمدارس وجامعات البيض، وغير مسموح لهم بمجاورتهم في كراسي النقل العام، ومنها القطارات حيث تفرد للسود عربات خاصة بهم، ناهيك عن دور السينما والمسارح والمقاهي والحدائق العامة، أما مناطقهم السكنية فبنيتها مهترئة وتخلو من أي خدمات اجتماعية وصحية وثقافية ورياضية وترفيهية، وحتى الكنائس فلهم كنائسهم الخاصة بهم، والأعمال الوضيعة ذات الأجور المتدنية هي المجال الوحيد المسموح لهم العمل فيها.
وكان لهذا المناخ من الاضطهاد العنصري أثره البالغ على مشاعر الفتى «كاسيوس مارسيليوس كلاي»، وهو الاسم الأصلي لمحمد علي كلاي الذي اختاره له والده على مسماه هو نفسه. ولعل من أمثلة ما تركته دعوات ومسلكيات كلاي الشخصية من أثر في دفع السود إلى الاعتزاز بأصولهم العرقية، ما قاله ريجي جاكسون أحد أبطال لعبة البيسبول: «كنت أخجل من لوني ومن شعري عندما كُنت شاباً، لكن محمد علي أشعرني بالاعتزاز» .
الثانية: موقفه النبيل الشجاع في الدفاع عن حقه في اعتناق العقيدة التي يطمئن لها قلبه، كما تجسد ذلك بعد تأثره مطلع الستينات بأفكار منظمة «أمة الإسلام»، ثم تفجيره قنبلة اعتناقه الإسلام العام 1964، والتي هزت بشدة الأوساط الرياضية والسياسية والإعلامية والدينية والاجتماعية، واستنكر عليه، وتعرض لضغوط قوية للرجوع إلى دينه المسيحي السابق، حتى تمت مساومته بأن يبقي على اسمه الأصلي، ويدخل في الإسلام سراً، باعتبار أن «كاسيوس» هو الاسم الذي اشتهر عالمياً به، وارتبط ببطولاته السابقة بحسب مزاعمهم، لكنه رفض ذلك بكل حزم وإباء. وظلت تلك الأوساط الإعلامية تصر على تجاهل اسمه الجديد ومناداته باسمه القديم أو كتابته في الصحافة. وقد توعد خصمه الملاكم القوي «ايرني تيريل»، الذي أمعن مراراً بالسخرية من اسمه وديانته في وسائل الإعلام، بتلقينه درساً لن ينساه فوق الحلبة، وقد فعل؛ فكان يصرخ في وجهه إثر كل لكمة يكيلها له من لكماته الموجعة الساحقة التي حققت فوزه عليه: «ما اسمي؟... هيا انطق ما اسمي؟»، فيما لكمات «كلاي» تنهال عليه كالحمم البركانية متتابعةً بسرعة البرق، كلما تأخر في النطق، واضطر «تيريل» بعدئذ بمناداته باسمه الجديد.
ولما كان تبديل الأسماء هي ظاهرة ارتبطت إما بالعقدة من «الدونية» للتخلص من اسم يتسبب في اضطهاد حامله، أو لايتيح له اسمه الوصول للمراتب العليا التي يطمح إليها، فلم يكن عالم الرياضة الأميركي يشذ عن تلك الظاهرة، وقد عدّد الكاتب الأميركي Walter Dean Myers نجوماً رياضية غيّروا أسماءهم بشكل اعتيادي، وتم اعتمادها في وسائل الإعلام، ولم تقم عليهم الدنيا، بينما قامت على «محمد علي» ولم تقعد.
والمؤكد أن اختيار «كلاي» لهذا الاسم الإسلامي المركب، لم يكن اعتباطاً، لولا أنه تأثر بشدة، انبهاراً وإعجاباً، بعظمة نبي الإسلام «محمد» وبعظمة ابن عمه ورابع الخلفاء الراشدين الإمام «علي»، بل تأثر حتى بلغة الإسلام العربية، فاختار أسماءً عربيةً جميلة لكل ابنائه التسعة: هناء، جميلة، غالية، ليلى، مريم، ميا، رشيدة، محمد علي، وأسعد. وحتى الجهات الرسمية أمعنت في تجاهل اسمه الجديد، كمكتب التجنيد الذي ثبّت اسمه القديم في سجل المدعوين للخدمة العسكرية، وناداه به، وأبدى في الحال اعتراضه الشديد على ذلك.
الثالثة: رفضه في العام 1967 التجنيد للمشاركة في الحرب العدوانية لبلاده على فيتنام، وبسبب هذا الموقف ضحىٰ بتجريده من لقب البطولة طوال 3 سنوات، وحُكم عليه بالسجن 5 سنوات، ولم يفتّ في عضده إجماع كل قاعات حلبات الملاكمة في الولايات المتحدة على مقاطعته، ولا حملات التشكيك والتخوين التي انطلقت بقوة لتشويه شخصيته في وسائل الإعلام، بل كان لموقفه الصامد أثر كبير في حذو الكثير من الشباب الأميركي من سود وبيض حذوه، وحتى السلطات لم تتورع من جهتها عن التنكيل بنجم رياضي عالمي كبير من مواطنيها، لطالما رفع اسم بلاده عالياً، مادام لم يخضع لمشيئتها السياسية، فكيف وهذا النجم ينحدر من العرق الإفريقي الأسود المنبوذ!
كان شعار كلاي لطريقة منازلته خصومه فوق حلبة الملاكمة: «أحوم كالفراشة... وألسع كالنحلة»، وهذا الشعار الجميل كم يليق به أيضاً في منازلته لأبطال الكراهية العنصريين على حلبة الملاكمة السياسية الأوسع، إن جاز القول، فقد كان خصماً سياسياً عنيداً في مواجهتهم، يلسعهم بلكماته اللسانية حيثما ظفر بهم، أو بلكماته الحقيقية الساحقة التي يوجهها لنظرائهم الرياضيين فوق حلبات الملاكمة الفعلية، وفي الوقت ذاته كان يحوم كالفراشة الجميلة كرجل سلام ومحبة بمحياه الطفولي الجميل... فرحم الله محمد علي كلاي.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5036 - الإثنين 20 يونيو 2016م الموافق 15 رمضان 1437هـ
مقال جميل .. سلمت أناملك يا ابا هيثم !!
يطالب بالمساوات والديمقراطيه لبني جلدته ثم ينالها بعد جهد ومرار محمد علي كلاي شخصيه نادره