يزخر التراث العربي بأدب الأمثال والحكم والمواعظ والنوادر والقصص والأشعار، وهذه الفنون كانت فيما مضى فاكهة المجالس والموضوعات الأثيرة لمسامرات العرب خصوصاً من أهل الشعر والأدب والسياسة. وكما دخل الغناء قصور العباسيين، دخلت الحكمة والشعر والأدب والمناظرات العلمية، وانتعشت الترجمة وبلغت الحركة العلمية مستوى غير مسبوق من الانتعاش.
والشرق، كما قال الفيلسوف الألماني شوبنهور (ت 1860): «موطن الأمثال والحكم القصيرة والكلمات العامرة بمعاني الحكمة في الحياة». لكن عبد الرحمن بدوي (ت 2002)، أبرز من درس أدب الحكمة في التراث الإنساني، يرى بأن هذا النوع من الأدب فيه من النفع بقدر ما فيه من الضرر، فهو إن أفاد في الحثّ على الفضيلة وفي استلهام الموعظة واتخاذ معايير للسلوك، فإنه يضرُّ من حيث هو قيدٌ يشدّ النفس إلى صيغ مصنوعة بأفكار سابقة ومعانٍ متعارفة، وهذه من شأنها أن تحجر السلوك في مجاري السنة التقليدية، مما يدعو إلى الانصراف عن التجديد والتوثب، «فالنفوس المبتكرة لا ترتاد إلا المجهول».
وفي ثنايا هذا التراث الأدبي، أغراض متنوعة منها ما يدعو إلى التأمل والعظة، ومنها ما يطرد الملل من خلال التفكه وتحقق غاية الترويح عن النفوس، وقد مرّ خليل الناسك بغرفة مخلَّد الموصليّ الشاعر وهو لا يعرفه فسمعه يقول:
أسأت ولم أحسن وجئتك هارباً
وأنّى لعبدٍ غير مولاه مهربُ
فوقف الخليل ومخلَّد يردّد البيت ويبكي، والخليل يبكي معه، ثم ناداه: يا قائل الخير عد، يا سائل الفضل زد، فقال مخلَّد: نعم وكرامة يا أبا محمّد:
غزال إذا قبّلته ولثمته
رشفت له ريقاً من الشّهد أطيبُ
فقال الخليل: سقاك الله حميماً وغساقاً. ثم قال: «اللهمّ لا تؤاخذني بهذا الموقف ومضى».
ويوم أن كانت للثقافة والأدب هيبة القصور ونالت حظاً أصيلاً من اهتمام الخلفاء؛ تسابق أهل الفكر من مثقفي تلك الفترات إلى بلوغ الدرجات العليا في هذه الميادين، ويُنقل عن أسامة بن معقل قوله: «كان السّفّاح راغباً في الخطب والرسائل، يصطنع أهلها ويثيبهم عليها، فحفظتُ ألف رسالة وألف خطبة طلباً للحظوة عنده فنلتها، وكان المنصور بعده معنيّاً بالأسمار والأخبار وأيّام العرب، يدني أهلها ويجيزهم عليها. فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلا حفظته طلباً للقربة منه، فظفرت بها. وكان موسى مغرماً بالشعر يستخلص أهله فما تركت بيتاً نادراً، ولا شعراً فاخراً، ولا نسيباً سائراً إلا حفظته، وأعانني على ذلك طلب الهمّة في علوّ الحال. ولم أر شيئاً أدعى إلى تعلَّم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون الرشيد في هذه الأربعة وأنسيتها حتى كأنّي لم أحفظ منها شيئاً».
وبصرف النظر عن ما يمكن أن يحسه المرء حيال هذا الصنف من المثقفين الذين كانت تحرّكهم دوافع شخصية لنيل الحظوة والمكانة عند الحكام، فإن المحصلة النهائية أن هؤلاء الحكام وهم على رأس الدولة ساهموا بإشاعة ظاهرة مجالس العلم، وترسيخ الاهتمامات العلمية والأدبية في المجتمعات العربية والإسلامية.
وقد دخل الشّعبيّ ذات يوم على الحجّاج فقال: «يا شعبيّ أدب وافر وعقل نافر. قال: صدقت أيّها الأمير. العقل سجيّة والأدب تكلَّف. ولولا أنتم - معاشر الملوك - ما تأدّبنا، قال: فالمنّة في ذلك لنا دونكم. قال: صدقت، قال الشاعر، في عبيد الله بن زياد :
علَّمني جودك ما لم أكن
أحسنه من جيّد الشعرِ
فصرت في الناس أخا ثروة ٍ
وصرت ذا جاهٍ وذا قدرِ.
وقال الفضل بن يحيى: الناس أربع طبقات: «ملوك قدّمهم الاستحقاق، ووزراء فضّلهم الفطنة والرأي، وعليّة أنهضهم اليسار، وأوساط ألحقهم بهم التأدّب، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء لكع ولكاع وربيطة اتّضاع، همّ أحدهم طعمه ونومه».
وقال معاوية للأحنف: صف لي الناس، فقال: «رؤوس رفعهم الحظّ، وأكتاف عظَّمهم التدبير، وأعجاز شهرهم المال، وأدباء ألحقهم بهم التأدّب، ثم الناس بعدهم أشباه البهائم، إن جاعوا ساموا، وإن شبعوا ناموا».
ولم تكن الطرفة البليغة والكلام المستعذب والشعر الحكيم حكراً على الرجال في مجالس الملوك والخلفاء، فقد كان للجواري نصيب وافر من ذلك، فقد قال عبد الملك بن مروان يوماً لجارية له: ألقيت على جلسائي صدر بيت فأعياهم إجازته. قالت: وما هو؟ قال :
نروح إذا راحوا ونغدو إذا غدوا
فقالت: «وعمّا قليل لا نروح ولا نغدو».
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5036 - الإثنين 20 يونيو 2016م الموافق 15 رمضان 1437هـ