في الشعر الكثير من التوصيف. فيه قواعد احتجاج أيضاً. فيه إدخال لقبح التاريخ ضمن مساحة لا تعمل على تعريته، لأنه عارٍ أساساً. العاري لا يُعرَّى. لكنه مع الشعر يصبح حالة أقرب إلى توظيف حالات منه للكشف عن وجوه لذلك القبح. لا وجه واحداً للقبح. والشعر وحده بالأدوات التي يملك يمكن تقديمه في صورة تجعلنا نتآلف مع الطريقة التي يتم بها ذلك التقديم. من المفترض بالشعر ألاَّ يُعدِّد الصورة والحالة والتناول.
هذه المرة، يضعنا الشاعر والمفكر العربي اللبناني من أصل سوري، أدونيس أمام صورة المرأة في تاريخ تم سرده، ولكن شعرنته بالكاد تكون واضحة أو يمكن القبض عليها، في الأثر العربي الذي تم التمكُّن من الوصول إليه. كل يجلُّها في النص. كلٌّ يتعامل معها كسقط متاع حين يُسدل الستار على المكان.
في مجموعته «تاريخ يتمزَّق في جسد امرأة»، بطبعتها الثانية الصادرة عن دار الساقي، يقدِّم المرأة، صورة وحالات، ومواقف، من وجهة نظر تاريخ غارق في الشهوانية والاستعباد واستبعاد المرأة. لا تخلو صور منها من تهكمية مُرَّة ومريرة. لا ينشغل بالسطحي من ذلك التاريخ، حين يصهره بالشعر. تاريخ صنعه بالضرورة رجال. ربما لم يتناولوا ذلك فيما كتبوه من تاريخ، لأنه يقدمهم في الصورة الأبشع التي لا يريدون أن يكونوا عليها. وظيفة كتابتهم للتاريخ أن تكون صورتهم أجمل مما ينبغي. هو الكاميرا وقتها، تبتسم في الصورة كي تكون الصورة أجمل. مع التاريخ تكذب... تتجمَّل... تدَّعي كي يكون أصحاب العلاقة في أجمل ما يريدون لتلك الصورة أن تكون عليه.
ببساطة، يريد أدونيس إن يقول لنا، أن الشعر يمكن أن يقول ما لم يقله التاريخ/ كتابة عن المرأة، بتلك الصورة الحاطة من كرامتها، من حيث التعامل والتعاطي معها والنظر إليها. بصياغة أخرى، يمكن للشعر أن يقول ما لم يقله عنها تاريخ من الممارسة السوداء. أن يقول ذلك رمزاً؛ وذلك جانب مهم من وظيفته.
تتوزَّع نصوص المجموعة على استهلال يبدأ بـ «صوت»، لتتناوب العناوين بين «الراوية»، «المرأة»، «الجوقة»، «الرجل»، وأكثر ما يتكرر من تلك العناوين: «الجوقة» و «المرأة».
يجمع بين العناوين/ النصوص تلك، اختزال الممارسة، باعتبار الممارسة المرأة كائناً يُرى وقت «الحاجة»، وهي حاجة لا تتجاوز «التفريخ» من جهة، وإشباع الرغبة من جهة أخرى. لا يُحاذي أدونيس تلك الممارسة بتفاصيل نظرها المخزي، كما هي، وليست تلك هي وظيفة الشعر، بقدر ما يقترب منها لمَّاحاً، مخضعاً ذلك التوصيف إلى متاخمة شعرية، لا تتورط في أدوار ليست من طبيعتها. حتى والشعر يبرز نبرة احتجاجه المُرمَّزة حيناً، والفاقعة حيناً آخر، إلا أنها تظل ضمن الكون الشعري، بذلك التجنيح، وذلك الانتقال من مساحات صوفية تأملية، إلى تسميات فاقعة من ممارسات ذلك التاريخ. ربما نقف على تجليات ذلك في نص «الراوية»؛ حيث نقرأ: «إنها امرأة، نصفها رحِمٌ وجِماعٌ، والبقية شر. هكذا رسموها. هكذا وصفوها. زمن - عنكبوت، يجرُّ خطاه على وجه قيثارة».
تنتقل مقاطع «الجوقة»، مازجة فضاء ما يشبه المفاتيح في كل من العناوين السابقة: «الراوية»، «المرأة»، «الرجل»، وستجد في نصوص «المرأة»، استدعاء لمناخات النصوص في العناوين أخرى، ولا تبتعد النصوص في «الجوقة» و «المرأة»، عن النصوص في سواها.
في نص «الجوقة»، نقرأ: «أقفلوا باب تلك السماء على أهلها، أقفلوا: جسد سيد، جسدٌ طيِّبٌ كريمٌ، لا يدقُّ على باب تلك السماء، ولا يدخلُ».
ما يمكن الوقوف عليه في نصوص «الجوقة» أنها تتحرك في حدود الأمر. أو الامتثال له. كأن الجوقة هي الأداة التي تحدد شيوع وعادية تلك النظرة المنحطة والقميئة للمرأة. لا يسلبها أدونيس مساحة الشعر، لا من أجل أن يكون لها شأن، بل ليرفع من شأن الشعر الذي يرفع من خلاله شأن المرأة بقدرته على هتك أسرار تلك الممارسات، ووضعها أمام الخزي.
وفي نص «الراوية»، نقرأ: «يظهر الآن بوم على رأس نجم، تظهر الآن حواء فوق حصان، يظهر الآن آدم في ناقة. النخيل المُعذَّب يعلو إلى ربه شاكياً». يقلِّب، أو يستدعي أدونيس المخلوقات، بحقيقة وجودها، أو برمزيتها، تدخل تلك المخلوقات في حال اندغام ومصاهرة الأم/ المرأة، الأب/ الرجل مع المكان. كأن الشعر هنا يؤرخ في اتجاهاته المضادة. إعادة الاعتبار لذلك الكائن المتن في هذا العالم الذي زج به في هوامش لا حصر لها، بل غيابات وتغييب.
في فضاء المجموعة بكل الإشارات/ العناوين التي حوتها، لم تبتعد عن إعادة صوغ النظر، في دور يبدو فيه الشعر متقمِّصاً كتابة تاريخ مسكوت عنه. لا التاريخ بمعناه الحدثي واليومي، بقدر ما هو تاريخ يكتبه الشعر، في رمزية ترتفع بالمرأة إلى مقامات هي تاجها. العلامات الأولى (التاريخية/ المكانية) ذات الدلالات الدينية، يعيد تكوينها شعرياً، في ذهاب يضع البيئات تلك ضمن سياقها المليء بالقسوة.
نقرأ في نص «المرأة»: «النخيل المُعذَّب يعلو إلى ربه شاكياً، بكت الشمس مثلي، وبكتْ عشبة لم تبح باسمها، وسمعت نواح كلاب، وتمنَّيت لو قطة تعبر الآن، لو أن منديلها في يديَّ - الطريق إلى زمزم مُرَّة، والحصى يتذكَّر وطء الحجيج، الحصى لا ينام، تُرانيَ أصبحت مثل حصاة؟».