خلال جنازة محمد علي في الأسبوع الماضي، كانت كلمات الممثل الكوميدي بيلي كريستال في رثاء الرياضي الراحل من أكثر الكلمات شجناً وتأثيراً في النفوس. كانت لحظات مشحونة بالمشاعر، بالطبع، وقد أمتع كريستال جموع المشيعين وهو يقول عن الفقيد: "لقد كان جميلاً. كان أكثر رياضي مثالي يمكن أن تقابله". وقد كانت هذه الكلمات حقيقية تماماً.
فقد رفض محمد علي، وهو في قمة مجده، أن يتاجر بقفازي الملاكمة ويحمل سلاحاً ويشارك في الحرب التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخوضها في فيتنام. ووقتها، أعلن محمد علي أن مشاركته في الحرب كمقاتل تمثل إهانةً لمعتقداته الدينية والسياسية. وقد أعاد بيلي كريستال إلى الأذهان ذكرى هذه الأيام بقوله: "كان هناك ملايين الشبان في مثل عمري ممن أصبحوا مُلزمين بتأدية الخدمة العسكرية في حربٍ لم نكن نؤمن بها. وكان محمد علي هو الذي انبرى للدفاع عن موقفنا جميعاً عندما تصدى للدفاع عن موقفه".
إلا إن موقف محمد علي آنذاك برفض التجنيد في الجيش قاده إلى مواجهة غير متكافئة مع أعتى خصومه على الإطلاق، أي الحكومة الأمريكية. وقد دفع محمد علي ثمناً باهظاً لذلك التحدي الذي أبداه، فقد جُرد من لقبه كبطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل، وصُودر جواز سفره، وتعرض لحملات تشهير على نطاق واسع، كما مُنع من ممارسة الملاكمة، وظل مهدداً بأن يقضي أجمل سنوات عمره خلف قضبان السجن إلى أن أصدرت المحكمة العليا الأمريكية في نهاية المطاف حكماً لصالحه.
وفي عام 1966، وهو العام نفسه الذي أصبح فيه محمد علي مؤهلاً للتجنيد في الجيش، تبنَّت منظمة العفو الدولية سياسةً بشأن "المعترضين على الخدجمة العسكرية بدافع الضمير"، وهم أولئك الذين حان وقت تجنيدهم في الجيش، ولكنهم يرفضون تأدية الخدمة العسكرية لأسبابٍ نابعةٍ من أعماق ضمائرهم أو معتقداتهم.
وقد اتخذت المنظمة موقفاً مؤداه أن المعترضين بدافع الضمير، ممن يُسجنون لرفضهم تأدية الخدمة العسكرية، يُعتبرون في عداد "سجناء الرأي". وجاء هذا القرار بعد خمس سنوات فقط من تأسيس منظمة العفو الدولية للنضال من أجل حرية هؤلاء السجناء، وهم الأشخاص الذين يُزج بهم في السجون لا بسبب جرائم ارتكبوها، بل بسبب معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات السلمية النابعة من ضمائرهم.
وفي ذلك العام، وفي ذروة الجدل حول الموقف من التجنيد العسكري، قال محمد علي للصحافيين "لقد قيل لي إن أمامي خيارين: فإما أن أذهب إلى السجن وإما أن أذهب إلى الجيش. ولكني أود أن أقول إن ثمة خياراً آخر. وهذا الخيار هو العدالة".
ولا يزال هناك مئاتٌ في شتى أنحاء العالم محرومين من هذا الخيار الثالث. ومنذ أن بدأت منظمة العفو الدولية نضالها من أجل المعترضين على الخدمة العسكرية بدافع الضمير، وثَّقت حالات لهؤلاء المعترضين في بلدان شتى، من بينها الأرجنتين وقبرص وإريتريا وإسرائيل والأراضي المحتلة وتركيا وبيلاروس واليونان والنرويج، وبالأخص في كوريا الجنوبية، والتي يوجد فيها حالياً أكبر عدد من السجناء من المعترضين على الخدمة العسكرية بدافع الضمير في العالم.
ويُعتبر سونغ إن هو واحداً من بين أكثر من 540 مواطناً من كوريا الجنوبية يقبعون حالياً خلف القضبان لرفضهم تأدية الخدمة العسكرية الإجبارية. وكما هو الحال في الغالب الأعم من الحالات، فإن سونغ إن هو ينتمي إلى طائفة "شهود يهوه" (ويرفض الآخرون الخدمة العسكرية استناداً إلى معتقدات دينية أخرى، أو لأسباب أخلاقية أو إنسانية). وترفض طائفة "شهود يهوه"، من منطلق تعاليم عقيدتها، جميع أشكال النزعة العسكرية، بما في ذلك الخدمة العسكرية في الجيش.
ومنذ الحرب الكورية، أُجبر ما يزيد عن 18 ألف شخص من أتباع طائفة "شهود يهوه" على هذا الاختيار الفظيع بين اتباع تعاليم معتقداتهم الراسخة أو إطاعة أحكام القانون، وذلك وفقاً لما ذكره الفرع الكوري لطائفة "شهود يهوه". وتُعد عقوبة السجن التي يواجهها هؤلاء المعترضون انتهاكاً لحقوقهم الإنسانية المتمثلة في حرية الاعتقاد والضمير والعقيدة.
ويبلغ سونغ من العمر 26 عاماً، وهو خريج جامعي حديث. وبمجرد الحكم على المعترضين بدافع الضمير، يواجهون مصيراً محتوماً. فكثيراً ما تذهب دعاوى استئناف الأحكام أدراج الرياح، لدرجة أن عديداً من المحكوم عليهم أصبحوا يُحجمون عن الطعن في الأحكام الصادرة ضدهم.
وعندما يخرج المعترضون بدافع الضمير من السجن بعد قضاء مدد الأحكام، يعانون أشد المعاناة من أجل الحصول على وظيفة، ويجدون أنفسهم على هامش المجتمع. وقد قال سونغ لباحثي منظمة العفو الدولية قبل الزج به في السجن: "منذ أن وُلدتُ وأنا أُعتبر مجرماً. فطوال حياتي أشعر بأنني سأُسجن لأنني أعرف أنني سأُسجن".
وقد حاول والد سونغ إقناعه بعدم الاعتراض على الخدمة العسكرية بدافع الضمير. فهو ينتمي إلى جيل أكبر، وقد نشأ في زمنٍ كان فيه أتباع طائفة "شهود يهوه" في كوريا الجنوبية يتعرضون في كثير من الأحيان للإهانة علناً، بل وللضرب والتعذيب. وقد تغير الوضع في الوقت الراهن، ولم يعد أتباع الطائفة يلقون مثل هذه المعاملة، ولكنهم ما زالوا يُعتبرون أقلية متمردةً موصومة بشبهات الخيانة.
ومنذ وفاة محمد علي، لا يكف أبناء كوريا الجنوبية عن تذكر زيارته إلى سول قبل أربعين عاماً، عندما تغلَّب على خصمه جو فريزر، في المباراة التي أُطلق عليها لقب "الإثارة في مانيلا"، واستعاد لقب بطل العالم في الملاكمة للوزن الثقيل. فقد استُقبل آنذاك استقبال الأبطال، وهو يطوف شوارع العاصمة، ويلوِّح للحشود من سيارته المكشوفة، ويقول لهم: "عندما أعود إلى أمريكا، وفي كل جولاتي، سوف أصف للناس مدى جمال كوريا".
ولعل السبيل الأمثل الذي يمكن من خلاله لسلطات كوريا الجنوبية أن تكرِّم ذكرى ضيفها الشهير هو أن تحقق أمله في أن ينتصر "خيار العدالة" على خيار السجن بالنسبة للمعترضين على الخدمة العسكرية بدافع الضمير. وهذا يعني الإفراج عن سونغ والمئات الآخرين الذين يرزحون حالياً خلف قضبان السجون، وتنقية سجلهم الجنائي، والإقرار بشرعية معتقداتهم، وإتاحة الفرصة أمامهم لكي يقوموا بدورهم كأعضاء كاملي الأهلية في المجتمع.
* مدير برنامج القانون الدولي والسياسات في منظمة العفو الدولية