بغض النظر عن العوامل الذاتية والموضوعية التي مكنت تنظيم «داعش» من السيطرة على أجزاء واسعة من سورية والعراق، ومنها دور القوى الإقليمية والدولية التي مولته وأمدته بكل أشكال الدعم المالي والعسكري واللوجستي، إلا أن ما يبديه من «صمود» و«استبسال» في الدفاع عن وجوده في المدن والأماكن التي تمترس فيها، يستدعي التأمل والدراسة، فأياً تكن وسائله الوحشية والشريرة التي يوظفها في هذا «الصمود» ، فإن من المقطوع به أن ثمة «عقيدة قتالية» تلعب دوراً مهماً في ذلك «الاستبسال»، طابعها الانحرافي، وثمة حواضن شعبية تلقاها التنظيم في المدن والمناطق التي وقعت تحت سيطرته، بغض النظر عن أحجامها حينذاك، أو تلاشيها في الوقت الحاضر بهذا القدر أو ذاك.
ولما كان من الثابت في تجارب الحروب الحديثة والعلوم العسكرية، أن حسم الحروب فيما بين الجيوش النظامية أسهل من حسمها فيما بينها وبين رجال العصابات، وبخاصة تلك التي تتلقى حواضن شعبية واسعة وحقيقية، فإنه يمكن القول في حدود معينة أن «داعش» يخوض شكلاً من أشكال حرب العصابات، وهذه هي المعضلة التي تواجه الجيشين السوري والعراقي على الأرض، وجيوش التحالف الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة من الجو فضلاً عن روسيا.
ولعل نموذج المقاومة المسلحة الشعبية في فيتنام هو واحد من أشهر نماذج حروب العصابات الشعبية الناجحة، حيث استنزفت قوات الاحتلال الأميركي لبلادها، وأرغمته على الانسحاب المُذل على جناح السرعة في خريف العام 1975.
ولقد لعبت المقاومة الشعبية السرية دوراً مشرفاً في مقاومة وإفشال العدوان الثلاثي على مصر في خريف العام 1956 في مدن القناة، وعلى الأخص في بور سعيد والإسماعيلية والتي شاركت فيها القوى الوطنية، لما لها من خبرات في العمليات القتالية ضد قوات الاحتلال الإنجليزي قبل الجلاء، فضلاً عن أن الرئيس جمال عبدالناصر أصدر قراراً بتشكيل المقاومة الشعبية السرية في مدن القناة، وأسند لبعض الضباط مهام قيادة فرقها وتشكيلاتها بقيادة البكباشي عبدالفتاح أبوالفضل، لكن هذه التجربة سرعان ما اُسدل الستار عليها بعد الحرب، بدلاً من الاستفادة منها وتطويرها وجعلها سلاح احتياط جاهزاً للتفعيل في أي وقت. ومع أن عبدالناصر كان في حالة حرب غير معلنة مع إسرائيل بكل أشكالها السياسية والإعلامية والاقتصادية، إلا أنه لم يضع في حسبانه ألبتة، ولو من باب فرضية الاحتمالات، أن تقدم إسرائيل مرة أخرى على شن حرب عدوانية، تمكنها من احتلال أراضي مصرية، وهذا ما حدث بالضبط في حرب يونيو/ حزيران 1967، إذ احتلت إسرائيل كامل شبه جزيرة سيناء وبضمنها الضفة الشرقية للقناة بمدنها كافة. وحينها ترددت همسات عن فتح المجال للتطوع في المقاومة الشعبية، وكان الوقت متأخر جداً بعدما أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه المنطقة، وقطعت كل خيوط الإمدادات والاتصالات، في حين كانت القيادتان السياسية والعسكرية تعيش في حالة يُرثى لها من الإرباك السياسي والعسكري، تحت تأثير هول الصدمة الكارثية العنيفة لحجم الهزيمة، عدا عن ذلك فإن تكوين خلايا وقواعد للمقاومة بين حربي 56 و67 يتطلب تفاهماً بين القيادتين السياسية والعسكرية، وهذا غير متحقق على أرض الواقع بسبب الصراع المكتوم بين الصديقين عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، ناهيك عن مخاوف الأول من أي تشكيلات عسكرية غير نظامية قد تخرج عن سيطرة النظام عليها في أي ظرف غير متوقع.
وهكذا، فلولا كل تلك الاعتبارات لكان بإمكان عبدالناصر، كقائد سياسي وعسكري، أن يعمل مسبقاً على إعداد وتمهيد الأرضيات اللازمة لانطلاقة المقاومة الشعبية بحواضنها الشعبية في كل مدن ومناطق سيناء والقناة؛ لاستنزاف قوات الاحتلال الإسرائيلي أشد استنزافاً، ولربما جاء سيناريو ما أسماه بإزالة آثار العدوان قبل رحيله، غير الإزالة التي جرت على خلفه أنور السادات في حرب اكتوبر 1973 التي لم تحقق نتائجها المرجوة؛ بسبب سوء إدارته لها واعتبارها مجرد «حرب تحريك» لا «حرب تحرير» لنواياه المبيتة في التعويل بعدئذ على الاستنجاد بالدور الاميركي في الحل السلمي، الذي وصفه بأنه يملك 99 في المئة من أوراق اللعبة، وهو الاستنجاد الذي قاده بعدئذ باختياره ورضاه إلى كارثة كامب دافيد 1978، وإخراج بلاده من حلبة الصراع العربي- الاسرائيلي وارتهانها منذئذ إلى الضغوط الأميركية الإسرائيلية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5029 - الإثنين 13 يونيو 2016م الموافق 08 رمضان 1437هـ