هنا، كل شيء كان لنا. دُحيَت الأرَضُون وسُمِكَت السماوات من أجلنا. فُلِحَت الأرض فغَدت أرِيضَة يمرح النبات والخير فيها، ظِلال هنا ووفرة هناك. مُخِرَ البحر فتَحَلَّى الناس بحُلِّيهِ وأكلوا من سُمُوكِه، وتواصلوا على كفّ أمواجه. وعندما كانت البشرية «فرداً» كان هذا الخير له. ولما أصبحت نفوسهم «مليارات سبعة» ظلَّت الأرض، وبقي البحر على العهد كريميْن زكيَّيْن خليقيْن للخير ومدّ العون.
كان البشر يأكلون ويشربون ويعمرون، ومعهم سِبَاع الأرض وطيرها وشجرها. كانت الأرض تُثمر وتُلقِم، والسماء تُمطر وتغسل، والأنهار تجري وتسقي، والغزلان تُضحِّي بلحمها كي نعيش، والثيران تحرث الأرض بلا كَلَل تحمل العبء الثقيل عنا. كان كل شيء مُسخَّراً لنا دون منغصات ولا نزاع وبلا حَيْف واقع ولا سيف مشهور. ما الذي جرى كي لا يستمر ذلك الخير وتلك الحياة الجميلة؟!
لقد تخلى البشر عن قوانين الطبيعة ونواميسها فاختلّ كل شيء. صار الإنسان يزرع لا ليأكل هو، بل ليُقدِّر ما على الناس أن يأكلوه. وصار يمخر في البحر لا ليصطاد هو بل ليُدرك صيد الآخرين. صار يأخذ الأرض لا ليسكن فيها، بل ليجلس عليها. صار يخنق الماء بالتراب كي يمدّ عنقه في البحر أكثر بعد أن أكل البر. وصار يقتل الطير لا ليسدّ مسغَبَته بل لتسلية النفس وإثبات القوة!
صار يصطاد الدواب لا ليأكل لحمها بل ليقتل الآخرين جوعاً بها. وبات يقتل الوحوش لا ليتَّقِي شرَّها، بل ليزيِّن بيته بجلدها، ومقابض سيفه بعاجها. وصار يركب ظهور السفن لا كي يصل زائراً معانقاً، بل غازياً وقاتلاً ومستولياً، فتحوّل أُنسُهُ إلى وحشة وإنسانيته إلى ذئبيّة وحضوره إلى تحدٍّ. إنها معركة الأنانية المفتوحة حين أجبر الإنسان أخاه الإنسان على العيش كما هو يريد حصراً.
صار يُوقِد النار لا للقِرى بل للحرق والتدمير. وصار يمدّ يداً لا ليُصافح بل ليطعن. وصار يُتمتم لا ليشكر بل ليشتم. وصار يحكم لا لينصر بل ليتأمّر ويبطش. وصار يَبنِي لا ليحمي المحتاجين من برد أو حر، بل ليسجنهم فيها. لقد صار الحديد عنده أغلالاً كي يسمع صليل القيود، لا لِجاماً يوقف به خَبَبَ الخيول. صار يأخذ المال لا كي يحفظه لهم، بل ليحتفظ به لنفسه ويكنزه عنهم.
لقد تعادى الناس بعد أن تهادوا، وتهارشوا بعد أن تآخوا. نسوا أن عِرقهم يصل إلى إبراهيم الخليل. وإبراهيم هو بن آزر بن التاجر بن الجاشع بن الراعي بن القاسم بن يَعْبُر بن السائح بن الرافد بن السَّائم، بن ملْكان بن مَثُوب بن إدريس بن الرائد بن مهْلِيل بن قِنَّان بن الطاهر بن هبة الله بن شيث بن آدم أبي البشر. وهو حال كافة أقوام الأرض الأخرى في انتسابهم إلى أبٍ واحد وأم واحدة.
لقد أصبح الفرد يملك ما يحتاجه مليون إنسان، وربما أكثر من ذلك: طعاماً وشراباً وسكناً ومعاشاً. لقد نسِيَ المرء أن قَدَمَيه لا تسطيعان أن تلبسا أزيد من فَرْدَتَيْ حذاء في آن! وساقيه لا يحملهما إلَّا إزار واحد! وصدره لا يستره إلاّ قميص واحد! لقد غاب عنه أنه مهما تمدَّد فلن يُغطِّي جسده إلَّا سرير واحد ولحاف واحد. ولن يركب أكثر من دابة واحدة. لكنه الجشع والرغبة في الاستيلاء على كل شيء.
لقد ضاقت الأرض بأهلها بعد أن رَحُبَت. وتحوَّل الخير العام إلى خاص. وأصبحت الناس تعمل كالعبيد بعد أن كانت سيِّدة حُرَّة. وتضخّمت الذوات، واستفحشت الثروات، وصارت كبار الأعمال تُوكَل لصغار الرجال، وصار الدم الحرام حلالاً وتسَاقَت الفرعنة: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين» (القصص: الآية 4).
لقد شوّه ذلك تفكيرنا وأنقص من عقولنا «فقَسَت قلوبنا وقحَطت عيوننا». وباتت الثياب وجلال المجلس دالين على العقل أكثر من أيّ شيء آخر. فأصبح الجاهل هو الناطق والعاقل هو الصامت. وصار العلم في اللسان وليس «في الجوارح والأركان». وباتت الناس تقول كل ما تعرف وتصدِّق كل ما تسمع. وأصبحت الأجسام تنمو والعقول تصغر. فلم يُقَم عدل ولم يُدفع ظلم، وضمر الحسن وشاع القبح.
لقد تبدّل كل شيء. صار الشَّك مفتاحاً للظلم لا للمعرفة. وباتَ الافتراض حقيقة ويقيناً، والحقيقة افتراضاً وظنوناً، فصارت حياتنا كذبة كبرى. فـ كم من كلام حُرِّفَ عن مواضعه، وكم من كلمات وُضِعَت في أفواهٍ هي لم تقلها؟ وكم من صورة حُجَّ بها في كل موضع على أنها ابنة هذا الحدث وهذه الأرض، ثم تُنسَب لحدث وأرض أخرى، كيفما شاء الأفَّاكون. هكذا كنا نقول واليوم نكرر.
هذا ما انتهى إليه حال البشر، تُصوِّر كبوتهم وتُسجِّل آهاتهم يوميات حياتهم البائسة المُضمَّخة بدم الصراعات. لكن ومن وسط هذا الركام مازال هناك من فيض الخير والحب كثيرون، ومازال الطيبون يُلوّحون بأيديهم للعائدين ويحملون خبزاً للجائعين، كما أنشدت فيا يونان بألم. فـ «أقصى الآمال تولد من أقصى الشقاء» كما كان يقول الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5028 - الأحد 12 يونيو 2016م الموافق 07 رمضان 1437هـ
ولا يحتاج الى الظلم الا الضعيف ...لهذا السبب يتحكم نسبة 1% في ثروات العالم... مقال رائع يحتاج الي الترجمه
مقال أدب ورقي في المشاعر الإنسانية
أدام الله عطاءك وقلمك الرائع
ألله المعين للاسف هذا حال العباد في هذا الوقت يا رب لطفك علينا
بورك قلمك
مبدع وراقي وحساس نعم آمالنا بغد المخلَص موجودة ...
أحسنت لافض فوك فقد ذكرت حقا وكتبت صدقا لاجف حبر قلمم هذا ، وياريت تكتب مقالات مثل هذا النوع ومثل هذا الجو
سلمت يداك يا بو عبدالله
أحسنت لافض فوك ولاجف حبر قلمك ،، مقال صريح وواقعي ومؤثر ، ياريت تكتب مقالات أخرى في نفس جو هذا المقال.
و كأنها قطعة نثرية فنية خرجت من طيّات كتب التاريخ كان قد القاها ابو العلاء او فاه بها ابن المقفّع او رتّلها لقمان الحكيم .. طوبى لك هذه النفس الشفّافة الراقية المُحسنة..
سلمت لهذا الزمن.
تحياتي
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ولا يبهرك الذين يبيعون أخلاقهم ودينهم وكرامتهم من أجل الأموال وللرياء والمن على الناس والمسميات الدنيوية.
ولكن كن منبهرا بأصحاب اللطف والكرامة والتواضع والرحمة والكرم. فإن أكرمكم عند الله أتقاكم!
أحسنت أستاذ محمد! صراحه أرتحت وأنا أقرئ هذا المقال الصادق! صدقت فعلا! لقد قست القلوب!