العدد 5028 - الأحد 12 يونيو 2016م الموافق 07 رمضان 1437هـ

«أيها الفحم، يا سيدي»... حدَّاد يستنطق غوخ شعرياً وفلسفياً وفنياً

فنسنت فان غوخ  - قاسم حداد
فنسنت فان غوخ - قاسم حداد

صوت فان غوخ، يقدِّمه قاسم حداد، كأنه هو. يقدِّمه لنا بشكل آخر. هذا التقمُّص يتجاوز المألوف مما عُرف عنه. يتجاوز اللغة التي ربما كتب بها. إزاء موقف استعاري. الاستعاري في تقمص وتخيل تفاصيل الموقف الذي أدَّاه وقام به في الحياة، وليس الموقف نفسه. كانت للرجل مواقف ربما تلخِّص العذابات، بتلك الروح التي تمكنت من مواجهة صلف ويباس العالم من حوله. يقدِّم العميق من ذلك الصوت. العميق من حياة فنان استثنائي، لم يعمِّر طويلاً في الحياة، ولكنه منحها معنى أكبر بكثير من سنوات عمره الشحيحة التي قضاها بين الحقول والألوان والمناجم والعذابات. يتوغل في جوهره حتى لكأنه في حضرتنا. بتلك الرؤية الشفافة التي تمتزج فيها الفلسفة بالشعر بالفن، تتمكَّن تركيبة كتاب حداد، من تقديم ما ينشِّط قدرة القارئ العربي على مسايرة التخيل والتقمّص. ليس ذلك فحسب، ألَّا يكون رهناً للصورة التي قدِّمت بها، ويراد لتلك الصورة أن تكون قارَّة وثابتة. وذلك هو ما يسهم في دفع المخيلة البشرية إلى أن تشيخ في وقت مبكر.

يأخذ قاسم حداد القارئ العربي بكتابه «أيها الفحم، يا سيدي... دفاتر فينسنت فان غوخ»، في طبعته الثانية، إلى ارتحال مرهِق ولذيذ في الوقت نفسه. مرهق بذلك التنويع والانتقال بين الشعري والفلسفي والفني. بتلك القراءات الغزيرة التي سبقت الكتاب. بقائمة طويلة أيضاً من الفنانين. قراءة للزمن والمكان وقتها. هو ارتحال في التاريخ.. المكان والزمن. ولذيذ بالوجه الآخر من الصورة عبْر لغة أخَّاذة وساحرة في دقَّتها.

تَرِكة من الخزائن

يكتب حداد: «1100 رسم، 900 لوحة، 800 رسالة، وما لا يُحصى من الجراح وخزائن الألم ومنعطفات النوم وتسعة أصدقاء وشقيق واحد وأحبَّاء لا يرحمون وخيمة الأخاديع. كل هذه التركة، كيف يقوى شخص واحد عن صنيعها بمفرده. من يضع الدلالة في فهرس اللغة، وينهر المعاني كي تبدأ الكلمات في النص، تعظُمْ مهماته».

بذلك الذهاب في حدود شفافة وعميقة، يتركنا حداد مع عوالم يتم استدعاؤها قبل قرن أو يزيد. رسائل غوخ ليست على تماس مع الفضاء الشعري الذي يضعنا فيه حداد. إنها القدرة الخلاقة التي تستطيع بما توافر لها من أدوات أن «تشعرن» العادي من الكلام، وإن كانت تفاصيلها القريبة من اليوميات والاحتجاج وبث الشكوى، تسهّل من وضعها في سياق شعري فلسفي وبالضرورة فني بحكم ممارسة الرجل وأدائه والدور الطليعي الذي لعبه بعد رحيله أكثر مما تبدَّى وقت حياته.

الجراح التي لا تحصى، والألم المكنون، والأصدقاء، والشقيق الرحيم ثيودور، ذلك الذي كان عالماً بذاته بالنسبة إلى فينسنت، المحاصر بالخيبات، والمقصى عن الحب.

السفر الذي ينتهي هو الآخر بالخيبات. أو كثيراً ما يكون كذلك. لم يجد فيه غوخ ضمن محصلات ترميم الذات المنهكة والمُستلبة، سوى مزيد من الركون إلى الذات نفسها. لا أحد معك في هذا العالم الذي يكاد لا يسع اثنين سوى أخ على تماس مع المرارة، وشاهد عليها، وحفيظ على الأيام التي أنهكتهك من القساوسة إلى الأهل. إلى المناجم التي مررت لك هواءها المميت، ذلك الذي سيرديك بالسل، رفقة أطفال ورجال هم رهن اختبار الأسافل من الأرض، سعياً وراء كنوز الفحم! هو الفحم الذي يصبح سيداً والنَّاس رهن موتهم بحثاً عنه!

«37 عاماً، ليس عمراً مديداً لكي يسع الأحلام. يتأخر في قرار السفر، مثل طريق تتعرف على خطوات العابر، يرسم لمواقع أقدامه المحطات والخيل والعربات وزكائب (كيس كبير من الخيش أو نحوه) الزبيب والخزف الطائش بالنبيذ واللافندر النفَّاذ، يضع ألوانه وحامل لوحاته، ويلقي نظرة خاطفة على منعرجات الهواء ثم يذهب».

الوقوف على القوة في الضعف

تقدم هذه الكتابة انتصار غوخ على ذاته، حين يضعها في مرمى الذين لم يطلبوا منه عوناً، بقدر ما كان يطلب العون من ذواتهم المستلبة، كي يطمئن إلى انتصاره على الموت وهو حي. أشرس أنواع الموت ذلك الذي يضعك ضمن الأموات وأنت لمَّا تغادر هذا العالم بعد. يقف على القوة في غوخ. لا ضعف البتة في رجل رسم خريطة مغادرته هذا العالم بخطف البرق. كأنه خطف الحياة التي لم تكن كافية لاختبار ألوان وطبيعة العالم.

وبالألوان التي شغلت حيزاً كبيراً في حياته. بذلك السيلان في الرؤية. بالطبيعة التي أعاد رسم ملامحها بالفرشاة. وبالرسائل التي كانت نافذته على عالم الأحياء المتمثل في أخ طاعن في الوفاء. بالأحلام التي لم يعرها اهتماماً لأنها ستتحول إلى كوابيس، وذلك ما حدث، وذلك ما كان يراهن عليه. لا عن سأم بقدر ما أن العالم يتحرك من دون ميزان. ميزانه الاختلال. الاختلال على أكثر من مستوى، يطال العلاقات والمغزى من هذا الوجود المضطرب هو الآخر، بالأدوار التي ترسم للأقوياء وحملة الصكوك كي يكونوا على رأس هرم العالم، فيما البقية مواطنهم الحُفَر.

«لذلك/ أضع ألوان قلبي في كلمات، أقرأ الرسم بالرسائل، وأكتب الرسائل بالشكل. تلك أجمل أحلامي التي لم يسعني الوقت لابتكارها، في طفولة النزق وفتوَّة العناد وعنفوان التجربة وانفجار الأسئلة. كان عليَّ أن أكتمل بعد ذلك».

لم تكُ حقول عبَّاد الشمس إلا الحضن الوثير الذي افتقده. في انفتاحه على الطبيعة والفضاء، هرب من الضيق فيه وحوله. ألَّا ينال حصة سعة من الأهل، لن يكترث العالم بسعته ومدى ضيقه. بالأشياء البسيطة يصنع كل هذا البهاء الذي لم يتوقف.

«يكفُّ عن اللوحة بين يديه، يضع ألوانه وأدواته في حقيبة الجلد البالية ويستدير ناحية الطريق الطويلة في حقل عبَّاد الشمس، ويذهب».

بالمزادات التي تحقق أرقاماً فلكية، كان الرجل بالكاد يجد ما يقتات عليه. في تتبع مسارات تلك النفس والروح والقلق والأحلام التي سترتد على أعقابها يكتب قاسم وكأنه هناك. كأن غوخ يكتب بعد كل تلك الخيبات، وجدلية الهرم والقاع: «أتقدم برسالة الله في الناس. المنجم ضيِّق والسماء شاسعة والكتاب في الوهدة. عليك أن تنظر إلى وجوه العمال لكي تخبرنا كيف تقنعهم بأن الله معهم». ليصل إلى خلاصة التساؤل: «إذا كان الله معهم، فمن يقف في جانب أصحاب المال والقوة والمظالم»؟

في مكالمة اللون... الجنون

في مكالمة اللون الذي لا يتحقق في مداه الأرحب إلى بلازمة الجنون. الجنون الذي يصنع اللحظات، بل الزمن الفارق. يصنع المواقف الفارقة، والقدرة على أن تكون مهيئاً لقيامتك، مثلما أنت مهيَّئ للحياة، وإن لم تكن في أدنى اشتراطاتها التي تجعلها قابلة للاستعمال. في كل ذلك استدعاء وتمثل لما يحويه هذا الكون، وما تضمه هذه الحياة.

«ثمة لون جديد يتوجّب علينا استعادته. ففي هذه الحقول تزدهر لا نهائية الأصفر الباهر. شمس كهذه لا بد أن تنتقل إلى تمثلات العالم وكائناته. لا أحد يُحسن مكالمة اللون مثل رسام يدرك الجنون. سكب نبيذه العتيق القاني، كرع كأسه دفعة واحدة، كمن يمحو كلمة ويخط أخرى».

في تقصِّي الرسائل، ينعطف بها حداد باتجاه منح كل تلك التفاصيل ضمن يومياتها قدرتها على البقاء. وحده الشعر من يمتلك تلك الميزة. كل ما يمسه الشعر. كل ما تعرِّج عليه رؤية فلسفية. كل ما يمسه الفن يظل مقيماً بكل تحولاته. كل ما نأى عن ذلك يظل رهن المؤقت. رهن البقاء العابر. العبور والمؤقت لا يصنع أثراً في الحياة، وأحياناً لا يصنع حياة أساساً.

عن العنف... عن عقوق الأهل هذه المرة، لا عقوق الأبناء/ الابن... يفتح حداد شرفة تطل على العذابات تلك.

«حين قلت لأحدهم: هل تعتبرني ابناً عاقاً؟ قال: أنت معوَّق يا فينسنت، عليك أن تفهم هذا لكي تساعدنا على مساعدتك. الجميع يوسعني إهانات وتقريعاً. يجرحونني ويضعون الملح في الدم. وذات أحدٍ في غداء العائلة، في حديقة البيت. اقترب كلب العائلة من أحدهم، فانحنى يداعبه بحنان انخلع له قلبي لفرط نعومته. لم أتمالك نفسي، فهمست بصوت مسموع: ألا استحق شيئاً من هذا؟».

وأعمق وأعمق يذهب في التخيل... في تقمُّص الرد على العقوق. عقوق الأهل. رد بين الذات والذات. الذات التي تحب وتسع العالم، وهي في الوقت نفسه ذات محرومة من ذلك الحب.

«كنت أطلب شيئاً من شيئين: نصيب الكلب من حنان العائلة، أو ذخيرة البنادق جميعها دفعة واحدة».

الكنيسة... اختبار المنجم

يأخذنا جانب من السيرة التي نقف عليها في موسوعة «ويكيبيديا»، نحو محاولة فينسنت التحول من معلم إلى رجل دين، طلب من القس جونز بأن يعطيه المزيد من المسئوليات المعينة لرجال الدِّين. وافق جونز، وبدأ فينسنت بالحديث عند اجتماعات الصلاة في أبرشية تيرنهام غرين. هذا الحديث عمل كوسيلة لتهيئة فينسنت للمهمة التي انتظرها لمدة طويلة وهي خطبته الأولى في يوم الأحد. على رغم أنه كان متحمساً ليحصل على فرصه بأن يكون وزيراً، إلا أن خطبه كانت باهتة وغير حيوية بشكل كبير. اختار غوخ البقاء في هولندا بعد زيارة عائلته في عيد الميلاد. بعد العمل لمدة قصيرة في مكتبة في دوردريخت في مطلع العام 1877، توجه إلى أمستردام في 9 مايو/ أيار لتهيئة نفسه لفحص دخول الجامعة لدراسة علم اللاهوت. تلقى فينسنت دروس اللغة اليونانية واللاتينية والرياضيات هناك، ولكن بسبب قلة براعته أرغم في النهاية على ترك الدراسة بعد 15 شهراً. وصف فينسنت هذه الفترة لاحقاً بأنها أسوأ فترات حياته. في نوفمبر/ تشرين الثاني أخفق فينسنت في التأهل للمدرسة التبشيرية في لايكين، ولكن أوصت الكنيسة في النهاية على أن يذهب إلى منطقة التنقيب عن الفحم في بوريناج ببلجيكا.

في يناير/ كانون الثاني 1879، بدأ بوصاية عمال مناجم الفحم وعوائلهم في قرية التعدين واسميس. شعر بارتباط عاطفي قوي نحو عمال المناجم. تعاطف مع أوضاع عملهم المخيفة وفعل ما بمقدوره، كزعيم روحي، وذلك لتخفيف عبء حياتهم. هذه الرغبة في الإيثار أوصلته إلى مستويات كبيرة جداً عندما بدأ فينسنت بإعطاء أغلب مأكله وملبسه إلى الناس الفقراء الواقعين تحت عنايته. على رغم نواياه النبيلة، رفض ممثلو الكنيسة زهد فان غوخ بقوة وطردوه من منصبه في يوليو/ تموز، رافضاً تركه للمنطقة.

تمنحنا تلك الإضاءة فهماً ووقوفاً على اقتناص حداد جانباً من تلك السيرة والاشتغال عليها كمن يعيد ترتيبها. ترتيبها من حيث اللغة والرؤية وهما تقدمانها إلى العالم بصيغة فيها من التكثيف والمرامي الكثير. حياة بكل ذلك التعقيد لا يمكن أن ترسم بلغة اليوميات، بل بلغة الشعر والرؤية الفلسفية، والتورط العميق في الفن.

«حين طرحت سلامي على الحرب، سارع الإكليروس بمنعي عن التبشير في عمال المناجم، فبدأت الاجتهاد خارج تخوم الكنيسة. كيف يدير الكهنة شبكة الدين وهم يحجبون الله عن محبِّيه».

وفي موضع آخر: «ذهبت إلى الدِّين وخرجت بالفن عليه. لا أصلِّي لشيء خوفاً منه. صلاتي نصِّي في كتاب الله. عربون صداقة لحياة صادقة، في الحلم وفي الواقع، الرسم هو دِيني. هكذا ابتدأت، هكذا انتهيت. تجشَّمت الجحيم والجنات لئلا يحسب أحد صلاتي تضرُّعاً».

في السيرة التي أشارت إلى تجربته التي خاضها مع عمال المناجم، نقف على التقاطات غاية في الحساسية. يضعنا حداد إزاءها بعيداً عن ضجر السيرة، إلى حبور وسعة الشعر «كنت في ممرٍّ كئيب. في سجن. في جرح الأرض».

وأيضاً «منجم مثل فهرس الكوارث، هبوطاً ومكابدات. هواء نافد وغاز خانق وانفجارات. آبار في خزانة الأرض تحدِّق بكائنات طارئة. أنفاق قديمة تتهتَّك وتنهار، هيكل خاوٍ يقع في مكان كئيب، يجاوره شعب يشحب في نحيب وفي جنائز».

وكذلك «يختبرون المنجم برئة الكناري، فتصيبه العلَّة المُهلكة. أمسكت ذراع الطفل أسأله، فخشيت أن ينفسخ جلده في يدي لفرط الرماد الطازج في جسده. لم يدرك السؤال، لم يتكلم، لم يقل شيئاً».

ونص رابع «ساعات فحسب، فأعرف حال من يقضي أياماً هناك. حين خرجت شهقت رئتي هواء الفضاء جميعه دفعة واحدة. تلفَّت، هل يحدث هذا للبشر. الكائنات الغضَّة الرهيفة تنحطُّ بها الحاجة لقاع الأرض، لكأن كسرة الخبز هناك، كأن زفير الروح العليل يبدأ من هناك، وهناك يتشظَّى الجسد الآدمي بفعل الكيمياء المريض».

وخامس «حُفَر وسراديب وأنفاق ينفق فيها الحيوان ويفطس الطير، على البشر أن يجتازوها لاكتشاف الفحم الفاسد قبل الحجر الكريم بفراسخ، هي مسافة وشيكة قبل القبر».

يكتب إبراهيم فرغلي، في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، بتاريخ 30 أبريل/ نيسان 2015، وتحت عنوان «أيها الفحم يا سيّدي... الإقامة في الآخر»: «بحساسية بالغة يدخل قاسم حداد إلى عقل فينسنت فان غوخ، ليقرأ أفكاره ويشعر بمشاعره وينصت لهواجسه ومخاوفه وآلامه. ثم يبثها لنا بقلب مفتوح وموضوعية وصدق جديرين بفنان كبير. وبينها أفكار فان غوخ عن الجنون الذي لم يحاول فان غوخ أن يدفعه عن نفسه كتهمة أو سبة بقدر ما حاول أن يوحي لنا أن الجنون في النهاية درجات، وأن أي مبدع حقيقي غالباً ما يتمتع بقدر ما من الجنون، مفرقاً بين الجنون كمأزق إنساني ووسيلة من المجتمع لتقييد حرية المختلف مع عاداته، وبين الجنون كقدرة عقلية وطاقة هائلة على إنتاج الفن الذي يتقوت من الخيال، وليس من الواقع».

الإصدار في طبعته الثانية
الإصدار في طبعته الثانية




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً