منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، بالانتقالات شبه اليومية التي تتم بين مدينة العين (125 كيلومتراً) والعاصمة (أبوظبي)، وبقية الإمارات الشمالية المكوِّنة لاتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي أقمت فيها لأكثر من عقدين، وفي ذروة نشاط وتحوُّل الساحة الثقافية الإماراتية وقتها، كان لابد أن أراكم الأصدقاء الفاعلين في ذلك الحراك. أسماء محلية، وأخرى عربية، شكَّلت معاً صورة ومضمون ذلك الحراك، بتنوِّعه، وانفتاحه على الأشكال الجديدة والتيارات الموَّارة في العالم. من بين تلك الأسماء يبرز الشاعر المصري نبيل أبوزرقتين، شاعر العامية الملفت في تجربته، من جهة، ونصه الحديث المفتوح على تحطيم الأشكال، وإثرائها بالمضامين العصية على الإمساك بها من جهة أخرى. الإمساك بها بمعنى تخلُّصها من المضامين المباشرة، والتزام نسق يُراد له أن يكون وصفة لا يمكن الخروج عليها للنظر إلى العالم، وممارسة فعل الاحتجاج عليه.
وضمن مسارين، لكنهما مسار واحد واقعاً: مسار اختطته تجربته في القصيدة العامية والتي أخذت به ليكون أحد أبرز علاماتها، والأخرى الفصيحة التي وضعته في الصفوف الأولى من الأسماء التي احتلت مواقع متميزة في خريطة الإنتاج الشعري في الإمارات ابتداء من ثمانينات القرن الماضي وما تلاها حتى اليوم؛ حيث ظل أبوزرقتين وفياً لمشروعه، آخذاً به إلى مستويات ومناطق مبتكرة، بقدرته على ركْن قاموسه الذي أنجز به نصوصاً، تقليباً، وسهراً على قاموس لا تغدو فيه اللغة مستعملة؛ على الأقل ضمن ما أنجز من مشروعه. هذا الكلام ينسحب على التجربتين معاً: العامية والفصحى، بالعلامات الفارقة التي سجَّلتها، والأثر البيِّن الذي ثبَّتتْه.
نصوص الهذيان... الفوضى
في مجموعته الجديدة «الثمرة العمياء... الشجرة أول من يرى»، الصادرة عن دار الانتشار العربي، في طبعتها الأولى للعام 2016، والتي تتضمَّن 12 نصاً هي على التوالي: «وعد ببداية دائمة، الحق بحر قعره الأزل، داغستان بلدي، سيدرك الأمر فوق الرماد، الحقيقة في الأكواخ القذرة (نصوص فوضوية)، عندما أموت دعوا الشرفة مفتوحة، وأنت تجرِّين الخيبة وحدك، مازالت الطيور تعبر الجسر على عجل، الثمرة العمياء، عمامة أبي، الراعي، والجنون غير قابل للتزوير. النصوص المذكورة تم نشرها في الملحق الثقافي بصحيفة «الاتحاد» الإماراتية في الفترة ما بين 1995و1997م.
تتحدَّد السمة البارزة التي يمكن تجلِّيها والوقوف عليها في النصوص تلك، في الهذيان. والهذيان هنا يقول هنا الكثير، ولا عجب إن قيل إنه هذيان في الدرجة القصوى من بلاغته. هل ثمة بلاغة في الهذيان؟! كثيراً ما يحدث ذلك. يمكن الوقوف على الكوابيس أيضاً، بتلك الممارسة اللغوية الضارية، والضاربة في توغلها لهتك أستار ما لم تقترب منه تجربة الشاعر. الشاعر الذي كلما هتك ستراً بأدواته التي لا تُرى، كلما منحه ذلك جرأة أن يحيل هذا العالم إلى لغز وعليه أن يقيم فيها ابتغاء كشفه وتعريته. تعريته بقول ما يتجاوز صورته. أو ما يبدو أنها صورته.
ليس نص «الحقيقة في الأكواخ القذرة»، وحده الذي يمكن أن يوسم بالنصوص الفوضوية، فالنصوص في مجموعها تذهب في هذا الاتجاه. اتجاه «نظام الفوضى»، حيث لا خضوع لتراتبية المعنى، ولا لترابية المقطع الشعري، بقدر ما هو اشتغال على الومضة. على الخاطف من ذلك المعنى. كأن المعاني مزدحمة في طابور كوني، وعلى أحدهم أن يفتح له مسارب كي تجد مساربها في هذا الكون، وبعين الشاعر الذي يرى انتظام العالم من حوله بفوضى ينتخبها.
لغة زمنين
في نص «الحق بحر قعره الأزل»، وفي كتاب التجلِّيات، نقرأ: «الأسفار ثلاثة: سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهذا السفر فيه، هو سفر التيه والحيرة، وسفر التيه لا غاية له».
في متاخمته ذلك الاتزان الذي يتجلَّى في التجربة الصوفية، لا يعمد إلى محاكاة ما قام وتحقَّق من نصوص تظل علامة فارقة في الأدب العربي، وحتى العالمي، وبتجنُّبه المحاكاة تلك، يقيم نصَّه، مستوياً على تجربته، مُمسكاً بلغة تُراوح بين زمنين: زمنه حيث هو، والمجال الحيوي الذي تتحرَّك فيه التجربة الصوفية، حيث لا سطوة ولا سيادة للزمن. نقف في النص على رسائل وكتب، من بينها كتاب الشاهد: «ليس العجب من البحر، وإنما العجب من الريح التي تموِّجه، ألا وإن الريح أنفاسك... فكل سفينة لا يكون ريحها منها فهي فقيرة، فعليك بوحي الماء»، وكتاب الأسفار. في نص «مازالت الطيور تعبر الجسر على عجل»، نقرأ «المدن تكره الإيجاز في كل شيء، أكتب إليك من مدينة مازالت تشبهك، ومازالت الطيور تعبر هذا الجسر على عجل».
على امتداد التجربة التي عاصرت الغالب منها، ظل أبوزرقتين وفياً للمختلف فيه وعنده. وفياً للصدمة التي تتركها أعماله في الوسط... المكان الذي يُعيد تشكيله؛ بحيث تستمر رؤيته له متحوِّلة وقادرة على فعل الرجرجة التي ينبعث منها نظر آخر للعالم والقيم، وعدم الارتهان للمفاهيم في جانبها التبريري والنفعي. يطلُّ بلغة يهتك أسرارها والنظُمية التي تعتريها. نظمية جاهزيتها بالاستسلام للأشكال، تغييباً للمضامين الخلَّاقة.
أعماله تضيئه
صدر لأبوزرقتين: «عندما يأتي الليل يا مريم»: «يتغيَّر لون عينيك، لمتكن أبداً سوداء، كما هي فوق أجولة القمح»، «إكيوكونيات»: «قالوا: إنه يجمع العتمة في جوال بحجم القدر، شريطة أن تكون الشمس نائمة، وكل ضوء يتعرف على أحلامه الصدئة عن طريق إبرة مليئة بالجحيم، قلت: وأنا أساعد الشمس في تنقلاتها بين البلاد، والملائكة أيضاً تبني من ترابها رؤوساً بلا أفكار»، «ليس في الموت»: «حاولت أن أكون جارحاً، كالكلام البعيد، قطار مر من رأسي، ودهس فكرة العائلة، وجدتني أفلت منِّي، كقارَّة صعبة، تضمها الحيرة على صفها بلا مبرر، لتصنع أبدية مثقوبة»، «صورة هذا الجسد»: «رغم أني أذكر الموتى ينامون، عند الساعة والنصف، يسهر القبر على راحتهم، فها هو ذا راكب زورقاً صغيراُ، يجتاز به الجحيم، هو ذا يعاقب الأشياء، كأنما الكون حقيبة تلميذ»، «الآخر فيه»: «الأشجار تخلع ملابسها، وتمضي لطفل بلا معنى، تشتري له لُعباً ومخاوف كثيرة، والحصيرة تمد ساقيها، لتدوِّن شهوات الجالسين، في خيمة المتاهة، لتعبر حدود المصافحة»، «أجنحة الأشجار الضريرة»، وهي مجموعة نصوص بالعامية، «وآخر الليل»، مجموعة نصوص بالعامية، و «الرقص على الكفن»، و «البحر لا يرتدي ربطة عنق»: أمام هذه الشرفة، بدون خجل... الهواء صبي صغير وجاف... كلب مهووس بالقمر... لا يؤذي أحداً... يتقدم ببطء»، والمجموعة التي بين أيدينا؛ حيث ممارسة التجريب على مستويات النص العامي والفصيح، عملت وتعمل على تحطيم الأشكال، والانحياز على المضامين التي تقول العالم، قبل أن تقول النص، باعتبارها شكلاً من أشكال الدراية والاحتجاج أيضاً.