العدد 5025 - الخميس 09 يونيو 2016م الموافق 04 رمضان 1437هـ

هذه الحيرة في هذا الشهر

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

في هذا الشهر الفضيل، لن أخادع النفس وأكرّر الأدعية والتمنيات المظهرية الروتينية، سواءً للأفراد أو الجماعات. سأكون صادقاً مع النفس، وسأجثو على ركبتي وأتوجه إلى رب العالمين، رب العدالة والحق والصدق، رب الرفض للنفاق وللكلمة الخبيثة، وسأذرف الدموع لأن يقبل قلقي وحيرتي ويغفر لما قد يزلّ به لساني.

بوجل وخشوع سأسأل ربي سؤالاً يحيّرني: هل إن عدالته ستقبل صيام وقيام أيّ مسئول أو تنظيم أو فرد يدعم بالمال والسلاح والدعاية الإعلامية وبكل أنواع الإسناد الأخرى الجماعات التي تمارس قطع الرؤوس بهمجية البرابرة، وسبي وبيع النساء الأسيرات كالحيوانات في أسواق النخاسة، وشيطنة براءة الأطفال بزجّهم في صراعات وحروب لا يفهمونها، وتفجير السيارات المفخّخة في الأسواق والمساجد والمآتم وكل أماكن تجمّع المواطنين الأبرياء فيخالفون بذلك أمراً من أوامر الله «ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللهُ إلا بالحق»؟ (الأنعام، الآية151). ثم يبرّرون تلك الأفعال، زوراً وبهتاناً وكذباً، باسم الاستجابة لرسالتك السماوية السمحة الرحيمة التي تحرّم تلك الأفعال «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً» (المائدة، الآية 32).

من هنا سأسألك يا إلهي بتواضع المؤمن الحائر: هل إن عدالتك ورحمتك ومغفرتك، مع كرهك للظلم والظالمين، يمكن أن تشمل مرتكبي تلك الخطايا اللاإنسانية الشنيعة فيما تقوله آية قرآنك الكريم: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم»؟

بحيرةٍ سأسأل ربي: هل إن عدالته تقبل صيام وقيام أيّ مسئول أو جماعة أو فرد أو مالك لمحطة تلفزيونية فضائية يساهم، بالقول أو الفعل، في إشعال نار الفتن الطائفية، فيما بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، وفيما بين السنة والشيعة أو أتباع أية مذاهب أخرى، وبالتالي إشغال هذه الأمة عن قضايا تحرّرها وتنميتها ونهوضها من تخلٌفها؟

إن أصحاب الفتنة يا إلهي قد لعبوا بقرآنك وأحاديث نبيّك، ففسّروها حسب أهوائهم وتخيّلوا ما ليس فيهما، واستعملوهما في صراعاتهم السياسية ومطامعهم الدنيوية، فتاه عبادك عن مقاصدك الكبرى وعن وحدة دينك وعن وحدة أمة دينك.

بخشوع سأسأل ربي: هل إن عدالتك ستقبل صيام وقيام من يدمّرون روح عبادة الصيام، فيقلبونه من شهر قبول وممارسة للجوع والعطش وذلك من أجل أن يشعر الإنسان بجوع وعطش الفقراء والمستضعفين والمهمّشين، يقلبونه إلى شهر تخمةٍ واستهلاكٍ مبتذل تبذيري نهم، وإلقاء الكثير الكثير ممّا يزيد من نعمك في براميل القمامة دون حياء من النفس أو توبيخٍ من الضمير الديني، وأنت الذي ذممت التبذير يا إلهي؟

بخشوعٍ سأسأل ربي: هل إن عدالتك ستقبل صيام أو قيام من ينهبون المال العام بغير حق، والأراضي العامة بدون تخويل، وثروات الأرض العامة بأنانيةٍ ولا مساواة؟ ويكتفون بتوزيع بعضٍ منها ومن فتاتها على من يمارسون الزبونية والولاء الكاذب والسكوت عن قول الحق وممارسة الانتهازية في الحياة العامة؟ يفعلون كل ذلك بينما تعاني خدمات التعليم والصحة والإسكان والثقافة من الشحّ والتقتير والتراجع في الأداء والمستوى؟

بوجلٍ سأسأل ربي: هل إن عدالتك ستقبل صيام وقيام من يتعاملون أو يتصالحون أو يعترفون بأي شكل من الأشكال مع العدو الصهيوني، الذي احتل أرضاً عربية وشرّد شعباً عربياً، ويتغاضون عن استمراره في سرقاته اليومية لأراضي ومياه وزرع أهل فلسطين وعن ممارسته اليومية في قتل وسجن شباب وشابات فلسطين وعن حقارة حروبه وحصاراته لتدمير غزّة المستباحة المنكوبة؟ بل ويتناسون أنه يحتل المسجد الأقصى بكل ما يرمز إليه من تاريخ وعبادة ومعانٍ روحية، وأنه يسمح لغوغائه ومجانينه باستباحة ساحاته المطهرة باسم تاريخ كاذب مبني على أساطير وأوهام وتخيلات.

وسأدعوك يا ربي العادل أن تعجّل بعقاب من يصافحون مبتسمين، ويقبّلون بحنانٍ وجنات من تقطر أياديهم بدماء الألوف من أهل فلسطين وأرض العرب من المسيحيين والمسلمين، ولا تخطر على بالهم وضمائرهم المشوّهة القاسية، دموع وأحزان وعذابات نساء وأطفال فلسطين المنهكة.

وبِحيرة الإنسان الذي تشوّش الأحداث ذهنه، سأقول لربي العليّ العظيم العادل: لقد اخترت أمة العرب أن تحمل آخر رسالاتك الإلهية وتنشرها بين البشر بالمجادلة الحسنة والقدوة والتضحيات إن لزم الأمر، وبالابتعاد التام عن عادات وجهالات القبلية الجاهلية، وسمّيت رسالتك برسالة الحق والقسط والميزان المؤدّية إلى السلام الحقيقي والمحبة بين البشر، ووصفتهم بـ»خير أمة أخرجت للناس» إن اتّبعوا تلك الرسالة، وبيّنت أن حمل تلك الرسالة هي مسئولية كل فرد في هذه الأمة وبلا استثناء على الإطلاق، لكن هذه الأمة تخاذلت ومارست كل ما لا ترضاه من مظاهر الاستبداد في الحكم واللامساواة في الحقوق والخيرات، وعدم الالتزام بقضايا الناس والأوطان في الحياة العامة، وعدم إعمار الأرض وبناء الحضارة المادية والمعنوية لها وللإنسانية جمعاء. ولقد تضافرت يا إلهي قوى السلطات التي مزّقت الأمة، وقوى الفقه المتخلّف الذي أدخل الناس في صراعات .

يا إلهي، نحن عبادك نعرف مقدار محدودية فهمنا لآفاق وأسرار عدالتك ورحمتك، ومغفرتك وعقابك. لكننا، ونحن نستقبل هذا الشهر الفضيل، نطرح هذه الأسئلة بخشوع المؤمنين الراضين بما تقضي وتقدّر، والتي تخطر على بال ملايين المظلومين والمعذبين والحائرين من ساكني أرض العرب الملطّخة بالدماء والدموع والقيح، طمعاً في أن تجعل يا رب العالمين هذا الشهر الفضيل شهر هداية لعقولنا وطمأنينة لقلوبنا، وبرداً وسلاماً لأرواحنا: أو لم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5025 - الخميس 09 يونيو 2016م الموافق 04 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 41 | 9:31 ص

      لا اجد كلمة في المعاجم توفيك حقك يادكتور، نرى فيك المربي و الانسان الصادق، البلد بحاجة لك و اتمنى ان يسمعوك.. ، بوركت

    • زائر 40 | 7:17 ص

      تحية لوعيك وغيرتك

    • زائر 39 | 5:49 م

      المرء باصغريه قلبه ولسانه فما اكبرهما عندك احسنت وجزيت خيرا

    • زائر 37 | 4:19 م

      لا فض فوك ولا عدمك محبوك
      أحسنت كل الإحســـان

    • زائر 34 | 9:08 ص

      رجل بقامة وطن ،مدرسة في الأخلاق والعلم والتواضع .. بارك الله فيك وأطال في عمرك

    • زائر 33 | 7:38 ص

      رجل كأمة ، ومعروف عن وطنية هذا الرجل من كان في وزارة التربية وكانت تزخر بالحسنى التربية والتعليم وكانت فعلا لها دور فعال في رفعة الطالب ولما يتخرج الطالب فعلا يحمل فكر الدكتور فخرو وشكرا له ولوطنيته

    • زائر 31 | 1:15 ص

      باركً الله فيك على هذا المقال ويعجز اللسان عن شكرا ان امتنا الاسلامية والعربية بحاجة لمثلك يا دكتور

    • زائر 29 | 7:30 م

      بارك الله فيك وأعطاك الله الصحة والعافيه وطول العمر يارب كلماتك هي بقلوبنا ويعجز اللسان عن تعبيرها وياريت ترجع وزير لوزارة التربية والتعليم

    • زائر 28 | 2:35 م

      شكرا من الاعماق يادكتور

      مقال في منتهى الواقعيه والشفافيه ...لم يتغير العرب كثيرا ماهي إلا اعواما قليله حتى عادو من جديد.

    • زائر 27 | 12:51 م

      كلام صادق من القلب

    • زائر 26 | 11:34 ص

      بورك قلمك يادكتور

    • زائر 25 | 11:19 ص

      اسجل اعجابي بك كمفكر وكقارئ ومسلم ومشفق ... بقيت تحب الناس وتتمنى لهم الخير وتكره الباطل والخراب

    • زائر 24 | 10:54 ص

      عظيم يا دكتور علي فخرو أصبت الحقيقه حيث أن تلك الدول التي تمول وتصافح الصهاينه معروفه مناهجهم وتوجهاتهم وتحريضهم على قتل الأبرياء ويعملون أنفسهم يحمون حقوق الإنسان ويتشدقون بالعداله وهم في الحضيض ويقولون أنهم حماة اﻻسﻻم وهم هادمي أركان الإسلام ﻻيحسبون أن يوم اﻻنتقام لن يصيبهم بل هو قريب إن الله يمهل وﻻ يهمل مهما طال الزمن ﻻبد أن يكتون با النار التي اشعلوها في كل بلدان العالم با أموالهم ونفوذهم قريباً سوف تأتيهم ساعة انتقام دم اﻻبرياء وتحوط ب أعناقهم

    • زائر 23 | 10:30 ص

      كلامكم در وعسل وذهب انتم دوما هكذا.. عشنا في ايامكم مدرسات في وزارة التربيه والتعليم عشنا الفترة الذهبيه.. تشجيعكم لمواصلة الدراسة والالتحاق بالجامة . كان خير دليل . بوركتم بهذه الافكار النيرة والقلم الصادق

    • زائر 20 | 9:35 ص

      كلامك أصاب الهدف يا دكتور. جزاك الله كل خير

    • زائر 18 | 8:40 ص

      مقال رائع يستحق القراءة

    • زائر 15 | 7:48 ص

      أحسنت, مقال رائع عزيزي علي محمد فخرو! بارك الله فيك!

    • زائر 13 | 7:15 ص

      بارك الله فيك أصبت كبدة الحقيقة يسلم البطن اللي جابك

    • زائر 11 | 7:10 ص

      بارك الله فيك دكتورنا وزارة التربية تحتاج أمثالك

    • زائر 10 | 6:43 ص

      دكتور علي فخروا انت رمز من رموز هذا الوطن حيث كانت بصماتك في التعليم لازال بعض منها يعمل به وأما كثيرا منها محيت بوباء الطائفية التي أنتهجتها الوزارة من بعدك .وبسبب صحة ضميرك كان للتعليم في عهدك شأن كبير أما الآن فترى المعلمين يركضون وراء التقاعد المبكر بسبب ماعانوه ويعانونه حتى اليوم من ذل ومهانة جراء السياسات التعليمية الحالية.انت انسان فلا غرابة أن يكون لك ضمير حي يستشعر الظلم والفساد في كامل الوطن العربي الذي أصبح ممزقا لهول الظلم والفساد الذي وقع على شعوبه

    • زائر 8 | 6:08 ص

      فعلا دكتور.. ليتك تعود وزيراً للتربية..تصلح ما افسد

    • زائر 7 | 5:48 ص

      احسنت دكتورنا فقد لمست عين الصواب
      وتقبل الله اعمالكم
      واتمنى ان تصل رسالتكم الى من هم .....!
      لعل وعسى ان يصحى ظميرهم ويرممو
      ما افسدوه
      قبل يوم الحساب

    • زائر 6 | 4:26 ص

      أحسنتم أيها الدكتور الفاضل....ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون،،...... ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون...

    • زائر 5 | 3:22 ص

      جلد للذات ، دون الجرأة على الاقتراب من مجلس الأمن
      تماماً يا دكتور ، تكلمت عن النتيجة و لم تشر إلى السبب و المنبع! جلدت ظهورنا ؛ دون بيان الجلاد الحقيقي! لماذا لا تقولون من قال للسنة إن الشيعي كافر عند السنة ، و أن السني كافر عند الشيعة؟ هل هي المخابرات االمركزية؟ أم المعلقات العشر؟ أم فريق المعامير؟ لماذا لا يوجد مقال واحد موجه إلى علماء الأمة بالاسم و الوصف و المنصب يطالبهم بإلغاء التكفير، أو بيان سببه؟

    • زائر 4 | 3:08 ص

      قول حكيم
      قرأت مقالك ايها النقي بفيض من التمعن وتمعنت في طوفان افكارك التي تبدد غيوم الضبابية في مسيرة البعض.
      ليس لدي تعليق بل اعجاب في ما بينت.
      حفظك الله

    • زائر 3 | 3:08 ص

      تسلم يا حر
      تفوق العرب على الغرب,
      ما هم بحاجة لتصنيع روبوتات لانة اكثرهم روبوت,
      روبوتات يتحكم فيه التاريخ
      قلنه ماعندهم عقل بعد ماعندهم عيون

    • زائر 1 | 1:48 ص

      سلمت يمناك دكتور علي فخرو ، عدالة الله لا تقبل هذا ، إلا من تاب وأصلح ما أفسده بما فعله وأخذ براءة ومسامحة ممن وقع عليهم الظلم بسبب ما فعله أي كان من الأنواع التي ذكرتها أعلاه. وشفاعة أهل البيت عليهم السلام يوم القيامة لا تنال أؤلئك لأنها لا تنفك عن عدل الله، إلا فيمن تاب توبة كاملة بشروطها كما ذكرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

    • زائر 30 زائر 1 | 7:58 م

      سلامي لك دكتورنا الكبير
      انت دائما تكتب آرائك النيره ونصائحهم المخلصة بحروف من ذهب . أتمنى ان لا تبخل علينا وتتابع مقالاتك الرائعه.

    • زائر 32 زائر 30 | 7:04 ص

      الردود جميعها مدح

اقرأ ايضاً