حياة الناس بين مرور عابر وأثر باق، فكم أناساً يعبرون ولا يتركون أثراً، بينما آخرون شغلوا الدنيا ضجيجاً، فالأيام لا تقاس بالساعات والثواني، ولا السنون بالشهور والمواقيت، إنما تقدّر بأفعال وإنجازات، فالزمن فرصة تتاح لنا لتحقيق الأحلام والإعمار، فهل لوجودنا أثر؟
جاء لفظ الأثر في معجم المعاني الجامع، بمعنى العلامة، فيقول العرب لم نجد له أثراً، أي خبراً، ويقال أيضاً يطلب أثراً بعد عين، أي يفوت ما يُرى ويطلب أثره فيما بعد. ويعتبر أبو الريحان البيروني (ت 440هـ) أول من بحث في الأثر عبر كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، فلم تهمه السير بقدر ما يرى العِبَرَ في الأثر، فهو يؤمن بديمومة الزمان وثبات المكان، عبر ما سمّاه تعاقب الزمان تاريخياً.
ويبحث هذا الكتاب في مفهوم الزمان والمكان، ويحتوي على تاريخ نظم الجماعات والطوائف المختلفة وعاداتهم وتقاليدهم، إذ يذكر في مقدمة مؤلفه: «التأريخ مدى معلومة تعد من لدن أول سنة ماضية كان فيها مبعث نبي بآيات وبرهان، أو قيام ملك مسلط عظيم الشأن، أو هلاك أمة بطوفان عام مخرب، أو زلزلة وخسف مبين، أو وباء مهلك، أو قحط مستأصل أو انتقال دولة أو تبدل ملة، أو حادثة عظيمة».
عمر الإنسان يقاس في هذه الحياة بأمرين، أولهما عدد سنواته، وفي هذا يشترك مع غيره؛ والأمر الثاني الأثر الذي قدّمه وسيتركه بعد موته. بعض الأثر ينتهي سريعاً، وبعضه يبقى ولا يمكن تجاوزه، ويستمر دهوراً وهذا للاستثناء، وهؤلاء يكونون أفراداً بمقدار أمة.
والعصر لا يقاس بجماعات بقدر ما يكون بهمة رجل آمن بالتغيير، وكرّس حياته وجهده من أجل تحقيق ذلك، لكن ذلك لا يعني أن الأثر ينبغي له أن يقترن بالشهرة والصيت، فربما يكون الأثر موجوداً ولكنه غير معلن، وغير ظاهر للعيان، ولكن يؤخذ بقدر أثره ودرجته عند الله، فكم هو جميل أن نترك أثراً كبر أم صغر، لنكون وفقاً لما يشير إليه قول الإمام علي (ع): «خالطوا الناس مخالطةً إن متّم بكوا عليكم، وإن عشتم حنّوا إليكم».
العابرون بلا أثر كثر وهم يعيشون بيننا، لديهم قاعدة تكمن في البحث عن السعادة للذات دون الأثر، فليس في أولياتهم ما هو الأثر بقدر ما يحققونه من رغد عيش واستقرار ودعة، لذا فهم ينأون بأنفسهم عن العناء، وكل ما يكدر صفو عيشهم، لكن ذلك لا يعني أنهم سيئون أو يعيشون على استغلال أو أذى الآخرين، بقدر أن ترك الأثر ليس في قاموس حياتهم لأنهم يعتقدون أنهم لن يعيشوا مرتين، فليعيشوها بلا أثر، ولكن هل محاولة ترك الأثر الطيب مؤذٍ أو هو تصنّع أو مداراة للناس؟
ليس هذا أو ذاك، إنما هو سلوك فطري للإنسان، مؤداه حبّه للخير، لذا لابد أن نقف على ما مضى من عمرنا، وما بقي منه حتى لا نكون طبقاً لما يشير إليه الكاتب المصري مصطفى محمود: «إن مشكلتك ليست سنواتك التي ضاعت؛ ولكن سنواتك القادمة والتي ستضيع حتماً، إذا واجهت الدنيا بنفس العقلية».
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 5024 - الأربعاء 08 يونيو 2016م الموافق 03 رمضان 1437هـ
يقول الشاعر اعمل لدنياك صالح خل يسجله دفتراه ..
شكرا لك على هذا المقال المفيد. وأتمنى منك
المزيد بمثل هذة المواضيع. ويعطيك الله العافية.
انت بالفعل كاتبة تستحق كل التقدير
نعم سنرحل وتبقى الاعمال الصالحة وأثرها .
مقال جميل ، سلم قلمك
أحسنتي أختي العزيزة رملة! موضوع رائع وشيق! ربما أثمن شيئ قرأته اليوم من الصبح لليل توني قارئنه الآن! ما شاء الله! صدقتين! أنا اتعجب من ناس كثيرة ما ليهم اثر في هالدنيا! كثرة أعدادهم وقلة خيرهم! ما ادري ليش! عجيب غريب أمر الناس! ولما أتناقش وياهم اشوفهم أجساد كبيرة جالسه على كراسي ومن خلاف بسيط اختبرهم فيه تضهر شخصيتهم الحقيقية أنهم أطفال مستعدين يتهاوشون بسبب هذا الخلاف وغضبهم وغيضهم ما يقدرون يكظمونه ويتعاملون معاه! سبحان الله