العدد 5023 - الثلثاء 07 يونيو 2016م الموافق 02 رمضان 1437هـ

الانشغال بملابسات الحياة... ملابسات الموت وإعادة الاعتبار للحضور

«جمعة الفيروز بين احتراقات الذاكرة واختراقات النسيان» لعبدالله السبب...

ينشغل كثيرون بملابسات الموت، ولكنهم قليلاً ما ينشغلون بملابسات الحياة. يتم تذكُّر الحياة وبشرها حين ينقضُّ الموت على بشر نحبُّهم... نرتبط معهم بصلات الحياة نفسها. بشر نعرفهم، وليس بالضرورة أن نكون ملازمين لهم بطبيعة علاقة ما، لكن الموت يُعمِّق معرفتنا بهم. يكونون محل الذاكرة وتنشيطها. وحده الموت يمنح مثل ذلك الامتياز: امتياز أن نلتفت إلى الحياة ومن نحبهم فيها أكثر من التفاتنا إلى الموت؛ لكن الموت يظل قادراً دائماً على حشْرنا في دائرة الانشغال به لحظة وقوعه. الانشغال بملابسات موت بشر كنا ملتصقين بهم. كتاب «جمعة الفيروز بين احتراقات الذاكرة واختراقات النسيان»، للأديب الإماراتي عبدالله السبب، يذهب في اتجاه آخر. يذهب في اتجاه الانشغال بملابسات الحياة، من دون أن يعني ذلك غضَّه الطرْف عن ملابسات الموت. الانشغال بملابسات الحياة... ملابسات الموت وإعادة الاعتبار للحضور. هو كتاب يعيد الاعتبار للحضور، ويصدُّ عنه غرابة واغتراب الغياب.

الكتاب صدر ضمن سلسلة «أعلام من الإمارات»، في جزئها الخامس، عن مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 2012، عن الشاعر والروائي والقاص والفنان التشكيلي والموسيقي الإماراتي الراحل (تخرج في معهد الموسيقى العربية بالقاهرة العام 1975)، جمعة الفيروز (ولد في منطقة السدروه بإمارة رأس الخيمة العام 1955، وتوفي في 20 فبراير/ شباط العام 2000)، ترك وراءه الاثنين معاً: ترك انشغالاً بملابسات حياته، لأنها لم تكن مستقرة وغير عادية في معظم ما أتيح له من تنفس فيها، كما ترك انشغالاً أعمق وأكبر بملابسات موته (وجد الرجل بعد 11 ساعة من موته)، في مطابقة مع الوحدة التي أرادها في كثير من مفاصل حياته. الاكتئاب الذي بات جزءاً من الملامح والهوية، ولذلك مدعاته. القلق الذي يسم التجربة بكل تفاصيلها، وفي الوقت نفسه: عدم الاكتراث بالحياة التي تضعه أمام مبضع الشرط. اختار أن يفرض شروطه على الحياة، فرحل بشكل مغاير تماماً: اختار هو الرحيل بمقدماته وطريقته والمكان الذي ارتضى.

ذهب إلى النوم باكراً

قبل أكثر من 4 سنوات، وتحديداً يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2012م، كتبت عنه في صحيفة «الوسط»، مقالاً تحت عنوان «في ذكرى رحيل القاص المبهر عازف العود الرديء»، وقد تضمنت الكتاب نفسه، ولكن بعنوان آخر «عن جمعة الفيروز الذي ذهب إلى النوم باكراً»: «في كل أعماله يذهب جمعة الفيروز إلى درس التقصّي ولا شيء غير ذلك في مشاكسته العالم الذي يمعن في الاختباء وراء مثاليات زائفة. اختباء يراد له أن يكون العنوان (العريض) لعالم (نحيل) في قدرته على المواجهة. مواجهة ما يدفع هذا العالم إلى الاحتشاد لوضع حد لكل ما يبعث على رهانه في الانتصار على العبث والمجهول المصطنع وتحشيد طاقاته نحو تعطيل كل ما يدل عليه».

يقودني ذلك إلى الحضور الذي سآتي عليه لاحقاً، كمن ينتظر غياباً ما سيحلُّ. منظور حضوره في هذا العالم لم يخلُ من التوجس على مدار الساعة. بعبارة أخرى: مشغول بالمؤقت. في الوظائف التي استبدلها، في الأمكنة التي كان يحبها وسرعان ما يهجرها، لكنه ظل وفياً للأصدقاء ولم يعمل على استبدالهم قط. ولم يتح له الوقت بحكم العزلة أن يراكمهم. يقودني ذلك إلى سرد ما حدث ذات مكان، حيث كتبت في المقال نفسه «قبل أكثر من عقدين ونصف، وفي المقهى الشعبي المطل على بحيرة خالد في الشارقة، لفت انتباهي حضور يكاد لا يريد أن يضمه المكان كأنه غصة حضور يراد لها أن تتوارى ولكن في جمع من الناس ظن ألا أحد سيعنيه شيء من تفاصيله. بعض خبث المكان شاء أن أكون هناك. لم يتصنع اللحظة الأولى في اللقاء والمعرفة. كان رحباً تقياً في الحفاوة. تقياً بمعنى اهتمامه بتفاصيل أن تعرف كائناً ولو بالصورة عبر مقال أو خبر. وفياً حد دفعك دفعاً إلى التواري خجلاً منه. لم يطل مكوثه في المكان. طال ترحابه وسؤاله عمن لا يعرفهم ولم يلتقهم في مدينة العين. كتاب وأدباء وأساتذة جامعيون وطلبة. لم يلتق أكثرهم إلا سمعاً أو عبر صورة تتصدَّر مقالاً أو خبراً في صحف ثلاث رئيسة: الخليج، الاتحاد، البيان».

ليس من رعايا الغياب

وبقدر ما يُقدم الكتاب شهادات من بعض أصدقائه، ومن بعض من عاصروه، وكانوا زملاء حرف وقلم، في حضوره المتقطِّع في الصحف الإماراتية في ثمانينات وفترة من تسعينات القرن الماضي، فإنه يقدِّم في الوقت نفسه تشخيصاً لعدد من أعماله، ووقوفاً عند بعض رؤاه، واسترجاعاً لحضور كان يملؤه، وصدَّاً لغياب يحاول أن يتلبَّسه، أو هكذا يبدو الأمر. وفي ذلك وفاء نادر، وقيمة تكاد تكون نادرة كلما أصبح أحدنا من رعايا الغياب، ولا يُراد له أن يكون أحدهم. لهذا كتب «السبب»: «هكذا، هكذا، هكذا، عاش الفيروز كأنه لن يموت أبداً، ومات كأنه لم يولد بعد.

ووقوفاً على علامات الراحل الفيروز، فقد تخرَّج العام 1975 في معهد الموسيقى العربية، القسم الحر في القاهرة، وله تآليف موسيقية عديدة، ورسَّام مولع باللوحات الزيتية والرسم بالفحم. يتكلم ويكتب، بالإضافة إلى العربية، اللغة الأوردية بطلاقة وإتقان، وترجم منها إلى العربية. اطلع على شعر طاغور وغيره من شعراء الهند الذين كتبوا بالأوردية. عازف ماهر على البيانو والقانون والكمان. انتقل بعدها للالتحاق بكلية الشرطة في السودان، التي أمضى فيها 3 سنوات دراسية، عمل لفترة في سلك الشرطة إلا أنه استقال، ودخل وظائف كثيرة لم يستقر فيها. يحب رقم 7، ربما لأنه ولد الساعة السابعة صباحاً، وزياراته المسائية محددة دائماً بالتوقيت نفسه، كما أشارت صحيفة «الخليج» في ملحقها الثقافي بتاريخ 28 يوليو/ تموز 1999م، من خلال حوار أجراه الكاتب والصحافي عيَّاش يحياوي.

كتب عن الغياب كأنه يراه

في كثير من قصصه لابد أن تجد للغياب حضوراً. كتب عنه وكأنه يراه. كأنه جالسه ليعود أدراجه ترتيباً لحضوره بين الأصدقاء، والبشر الذين يطمئن إلى أن الحياة مازالت حاضرة بهم، ومازال هو من بين أولئك البشر.

في لازمة الصمت... الذين يحضرون... وداع الغائب... الشمس في غروبها... سدْل الستار، وعودة إلى الغياب. كل ذلك نقف عليه في خاتمة قصة «الغائب الذي لن يعود»: «... عمَّ الصمت أرجاء البيت، وتبادل الحاضرون نظرات بلهاء وغارت العيون! لبس الفريج رداء أسود ليودع الغائب الذي لن يعود... وعاد الموكب الحزين يجرُّ أذيال الخيبة والحسرة، ومالت الشمس للغروب تسحب نورها، وتترك المجال للظلام يسدل أستاره على الكون... وغابت فيه (أمينة) تغسل عار عبَّاد الدرهم!».

وفي فاتحة بعض قصصه لن تعدم حضور الغياب وتجلِّيه، ففي قصة «ثمار السنين اليابسة» نقرأ في مفتتحها: «... اليوم أغتسل بماء الحقيقة...! سبعة وأربعون عاماً، أنكرني صدر أمي... تذوب في ذاكرتي خفقات الروح والجسد... لا أحمل عكَّازاً، حين أغادر الطريق الصعب بتاريخ عمر من الزمان يطوِّقني بيديه العاتيتين... حفل ابتهاج ما كنت أملك مبرِّراً للرفض!... حضروا بفوانيس سبعة... أضاءوها... كانوا حولي جميعاً... أطفأتها وكأنهم يريدون القول: بأن عليَّ إطفاء تلك السنين من عمري، كجمرات خافتة بين تلك الفوانيس السبعة...!».

يقف عبدالله السبب على أماكن حضوره في الفعاليات والأنشطة الثقافية التي كانت تعجُّ بها رأس الخيمة، وهي واحدة من الإمارات السبع التي تميَّزت بوجود أسماء كبيرة تركت بصماتها في الثقافة والأدب الإماراتي قديمه وحديثه، وهي بمثابة «خزَّان التاريخ»، والتوثيق مقارنة بمثيلاتها في الإمارات الشمالية. يقف على حضوره في الأمكنة تلك، من فرع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ويوم الشعر العالمي، كما يقف على الفيروز بقلمه، من دون أن ينسى «المخطوطات الفيروزية».

وجد نفسه خارج الواقع

الشهادات التي كتبها سامح كعوش، يوسف أبولوز، عبدالعزيز جاسم، مسعد النجار، محمد محيي الدين مينو، أحمد عزيز الحسين، مرعي الحليان، ومن البحرين، جعفر الجمري، ومن عمان، عبدالله حبيب، وبعضها نصوص من كل من: سعيد البدري، أحمد العسم، هيثم الخواجة، هاشم المعلم، وعبدالله عبدالوهاب. كل تلك محاولات إعادة الاعتبار لحياته، ونفي الغياب عنه.

من بين الشهادات التي لامست تفاصيل، واعترفت بريادة مبكرة، تلك التي كتبها عبدالله حبيب، الذي يعد اليوم واحداً من أهم وأعمق المثقفين والشعراء والكتَّاب في عمان ومنطقة الخليج، وله حضور عربي كذلك، كما كتب الاعلامي والمسرحي مرعي الحليان تحت عنوان «جمعة الفيروز... سنديانة لا تموت»، اقتباساً لوصف الأديب السوري هيثم الخواجة حيث رأى فيه واحداً من المبدعين الذين وجدوا أنفسهم خارج الواقع. من الأسئلة يبدأ، من دون أن ينتظر مرعي إجابات عليها، ففي تأملها الكثير من تلك الإجابات التي ليس بالضرورة أن تكون حاسمة ودقيقة. «لماذا يبدو الفيروز وكأنه يحاول الإمساك بأغلب أشكال وألوان التعبير الإبداعي لكي يبوح باعترافاته تجاه أيامه ولياليه وتفاصيل ما حوله... لماذا عزف على آلة العود وصادقها ووجد في أوتارها أوتار أحاسيسه ومشاعره؟ لماذا أراد أن يشاغب دراما الحياة بسرد أراد أن يكتبه هو من خلال قصص جمعها، وترك بعضها في قصاصات مخبَّأة؟».

وفي ذهابه إلى الأشكال التعبيرية تلك، كان يعي تماماً أنه يلامس ما استطاع قبل النهايات، التي كانت حاضرة، وكأنه يجالسها... ينادمها. مُتعجِّلاً يبدو، وفي أوقات كثيرة، كان يشعر بأن المقام طال به، وعليه أن «يقول إنجازاً» ما، بكل ذلك التعدُّد، وعليه أن يقبض على سمة وعلامة فيه.

يعود بنا مرعي إلى فضاء الأسئلة نفسه، ليس بحثاً عن تفسير ذلك التعجُّل، وخيار مغادرة العالم، بقدر ما هو استفزاز لملابسات الحياة تلك. «هل كان جمعة الفيروز يعيش حالة ترقب لنهايته ورحيله؟ فتشظيه على أكثر من محور إبداعي يجعل من نفي هذا السؤال غير منطقي. لقد ذهب الفيروز إلى الرواية كما ذهب إلى الموسيقى والشعر والقصة، وكما ذهب إلى حالة المنظّر الحداثي، وذهب أيضاً إلى المسرح... ولحَّن أغنيات عاطفية ووطنية. هذا التمدُّد في ظل قلق كبير وتوتر قاتل أدخله أتون العزلة... يدلل كثيراً على أن هذه الذات المبدعة كانت تدرك أن عليها الكثير، لكنها مطاردة من قبل الوقت والسفر المفاجئ».

الموت... الحقيقة الخالصة

من بين من كتبوا شهاداتهم في تجربته، الشاعر الإماراتي حبيب الصايغ. جانب من تلك الشهادة مس المباشر من العلاقة، وهي تلوذ بفضائها الشعري الذي لا يريد أن يقول الراحل بالرثاء العابر، والكلام العابر. في «لحظة حرية»، مقال نشره في صحيفة «الخليج» الإماراتية، بتاريخ 21 فبراير/ شباط 2015، جاء فيه «موت جمعة الفيروز، وليس غياب أو رحيل أو حتى وفاة جمعة الفيروز. مع الشاعر، أي شاعر، لا تجدي أنصاف الحلول. حياة الشاعر ليست إلا المبالغة بالمعنى الإيجابي أو السلبي لا فرق، وكذلك موته، بل إن موت الشاعر خصوصاً لا يحتمل إلا الحقيقة الخالصة، وهل كالموت حقيقة خالصة؟ ولأن حياة الشاعر رواية ناقصة، فإن موته تتويج لذلك الاكتمال البهي الذي يكاد يتحقق كلما كتب الشاعر قصيدة جديدة. موت جمعة الفيروز، في هذا السياق بين متن الرجاء وحاشية التقدم القسري إلى الأمام، هو قصيدته الأخيرة، ولمدمني الشعر وهواة الندم أن يترنموا، عبر تتابع اندثار الفصول وانهيار الأفكار والعناوين والأسماء ومسافات الصهيل، بموت هذا الشاعر المنتمي إلى نفسه أولاً، وإلى جدران غرفته الصغيرة المظلمة في رأس الخيمة أولاً».

وعودة إلى الأديب عبدالله السبب، وبعيداً عن كتابه، نستدعي مقالاً نشره بعد عامين من صدور الكتاب، في صحيفة «الخليج» بتاريخ 13 مايو/ أيار 2014، حمل عنوان عن جمعة الفيروز إلى من يهمه الأمر»، قال في جانب منه: «الفرص عدة، والمخطوطات وفيرة، ومتعددة الأنماط والألوان والاتجاهات الأدبية، وهي متناثرة هنا وهناك، في حوزة جمع غفير من الأصدقاء والصحف ووسائل الإعلام المختلفة، فهل سنجد أياً من المؤسسات الثقافية وقد أخذت على عاتقها ترجمة مخطوطات الفيروز، وسواه من الراحلين وغير الراحلين، إلى واقع نشري أدبي ملموس؟ جمعة الفيروز، (سنديانة لا تموت)، هكذا وصفه الأديب العربي هيثم يحيى الخواجة، فهل سيظل جمعة الفيروز... بين احتراقات الذاكرة، واختراقات النسيان»؟

يشار إلى أنه صدر للراحل الفيروز: ديوان «ذاهل عبر الفكرة» عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، المجموعة قصصية «مسافة أنت العشق الأولى» عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، والمجموعة قصصية «علياء وهموم سالم البحار» وصدرت عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة.

يُذكر أن سلسلة «أعلام من الإمارات»، صدر منها: «الصور الإبداعية في شعر سلطان العويس»، لعبدالغفار حسين، «غانم غباش - نفرح ونغيِّر العالم»، لشوقي رافع، أبحاث ودراسات عن ابن دريد الأزدي»، في جزأين، لم يذكر اسم المؤلف، «ديوان ابن دريد»، دراسة وتحقيق عمر بن سالم، و «شرح مقصورة ابن دريد في فنون الشعر والحكمة والأدب والشعر»، لم يذكر اسم المؤلف.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً